۱- يعتقد المسلمون أنَّ القرآن الكريم هو الكتاب السَّماوي الذي أنزله الله ، تبارك وتعالى ، على نبيّه الرسول الأكرم (ص) ، ويحوي في طيّه برنامج السعادة البشرية ، المادّية والمعنوية ، الدنيوية منها والأخروية ، وأنَّ هذا القرآن بكل آياته وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، يخاطب البشرية جمعاء … أنزله رحمة على عباده لينظروا فيه ، ويقفوا على محتوياته ، ومفاهيمه الحكيمة ، فيسعدوا بتطبيقه ، والعمل به.
وهذا كيف يتلاءم والقول بأن لا أحد يعرف معنى ومقصود جزء كبير من القرآن المتمثل في الآيات المتشابهة ، حتى النبي (ص) ، والأئمة (ع) ، من بعده؟! وأنه قد أخفى الله تعالى ذلك عن عباده مطلقاً!!
إذا صحَّ هذا!! يلزم أنْ يكون نزول الآيات تلك في القرآن الكريم عملاً عبثياً ، لا جدوى منه!! لأنَّ ضبط هكذا آيــات وقراءتها ، بحيث لا يعرف معناها غير الله ، عز وجل ، بعيد عن العقل ، وعمل العقلاء ، وحاشا الله الحكيم أنْ يأمر بمثل هذا ...
٢- يفهم بالضرورة من هذا الرأي أنَّ: {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} آمنوا بآيات الكتاب المتشابهة عليهم ، وأعلنوا ذلك من دون فهمهم لها ، ومعرفتهم بها!!
وكيف يكون ذلك ، والعلم والعقل يحكمان بالفهم والمعرفة الكاملة بالشيء ، قبل الإيمان به ، كي يكون الإيمان إيماناً حقيقياً ثابتاً ، ويمنعان من الإيمان والتكذيب بالشيء ، إلا على موازين الدراية ، والتبصّر ، والتعقل ، إلا تعبّداً ؟!.
وإذا كان لا يعرف أحد تأويل تلك الآيات ، كيف آمن {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} بها ، وهم يجهلون تأويلها؟ ولا نسلّم أنْ يكون إيمانهم تعبُّديَّاً ، لأنَّه لا يتطابق ، ولا يتماشى مع العقل السليم ، والمنطق الصحيح !!
ولا نرى إلا أنَّ أصحاب هذه النظرية ، قد انحرفوا عن طريق العقل والعلم ، وأنَّ في كلامهم هذا ، بهتاناً على الله عظيماً ، وتوجيهاً للآية المباركة ، بغير الوجهة الإلهية!
٣- إنَّ الله ، عز وجل ، الذي يأمر عباده في غالب الآيات القرآنية ، بالتدبّر ، والتفكر ، والتعقل ، في كل الأمور عامة ، وفي فهم الآيات القرآنية خاصة (١) ، كيف يمكن ـ والـحـال هـذه ـ أنْ يحمّل الله الحكيم عباده ، الإيمان بالآيات المتشابهة ، والتصديق بها ، من دون تعقل وتفهّم ؟!
هل يشبه العدل الإلهي عدالة حكام الأرض ، والمستبدين ، فيشوبه بعض الظلم والجور على عباده ، فيأمرهم بالإيمان والتصديق ، بشكل استبدادي وتحميلي ، بحيث لا يسع الرعية إلا الإعلان بالموافقة والتأييد ، خوفاً على حياتهم ، وعرضهم ، فيقولوا: آمنَّا وسلَّمنا ؟!!
في الواقع والحقيقة ، لا نرى أيَّ دليل يدعم هذه النظرية ، وإنَّهُ خيال باطل لا يتفق مع موازين العقل والعلم ، ولا يسعنا إلا أن نحكم على أصحابها بعدم المعرفة بالمنطق الإلهي ، والقوانين الربَّانية ، من خلال نسبتهم القهر ، والظلم ، والإخفاق ، إلى ساحة الربوبية العادلة !
٤- إذا كانت الآيات المتشابهة (٢) ، لا يعرفها إلا الله ، عز وجل - كما يقولون - وحتى الرسول الأكرم (ص) ، والأئمة (ع) ، لم يعطوا علمها ، في هذه الحال ، ما الحيلة إذا دخل أحد على الرسول (ص) ، ليسأله عن تأويل إحدى الآيات المتشابهة ، وما المقصود منها؟ فهل يتعقل إنسان عاقل أنْ يقول له الرسول (ص): «لا أعلم !» ، وكم من السخرية بمكان أن يُسأل الرسول (ص) ، عن آية من آيات كتابه ، الذي أُنزل عليه ، دليلاً على نبوته ، ويقول : «لا أدري !».
إلى هنا ، وإذا نحن لا نسلم لأصحاب هذه النظرية في مسلكهم ، وأوردنا عليها إشكالات غير قابلة للرد ، نقول لهم:
إنكم قد ضللتم الطريق لمعرفة القرآن ، بل إنَّ الله ، عزوجل ، بلطفه وكرمه ، جعل أمناء لوحيه ، فأودع عندهم تفسير القرآن ، وتأويله ، ومحكمه ومتشابهه ، وهم: محمد رسول الله (ص) ، وأهل بيته (ع) ، من بعده ، فهيأهم لذلك ، ورباهم ، وجعلهم الراسخين في العلم ، وأيدهم بذلك ، وهم أول من علمهم القرآن ، وهم المقصودون من الآية الشريفة:
{الرَّحْمٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ} (۱) ، في عالم الأنوار والأرواح ، فاختارهم باختياره ، أنْ يحملوا تلك المعلومات اللامتناهية ، والأزلية ، واللدنية ، وأمرهم بأن يعلموا الناس منها ، كلاً بقدر طاقته واستيعابه ، وحسبما تقتضيه الحكمة ، لكي يطلع كل ذي بصيرة ، وطالب علم ومعرفة ، على تعاليم القرآن ، وأسراره ، ورموزه ، فيسعد بالعمل به ، ويرقى درجات التكامل ، والوصول إلى القرب الإلهي ، فيضمن سعادة الدنيا ، والفوز بنعيم الآخرة.
وسيكون لنا في الفصل القادم ، إن شاء الله تعالى ، مزيد من الكلام ، في هذا المجال.