الرسوخ في العلم
قبل كل شيء ، ومن أجل الوقوف على معنى الآية الشريفة ، بشكل واضح ، نبدأ بشرح مفردات الآية ، أمثال:
«الراسخون في العلم ، المحكم ، المتشابه ، أم الكتاب ، التأويل ، وغيرها … لنساعدك في فهم الآية فهماً كاملاً ، ومن ثم يتبين بطلان إدّعاء الوقف على لفظ الجلالة ، وتكون مقدمة لعلم تفسير القرآن ، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم:
- نبدأ بتوضيح وتفسير {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، التي هي الهدف من الآية الشريفة:
۱- راسخون : جمع راسخ ، وهي صفة من مصدر «رسوخ» ، وجاء في كتب اللغة (۱) وكذلك في كتب التفسير : رسخ الشيء ، يرسخ رسوخاً ، يعني : ثبت . والراسخ في العلم : الذي دخل فيه دخولاً ثابتاً . فإذن الراسخ : بمعنى الثابت . والراسخ في العلم : يعني الثابت في العلم ، والثبوت في شيء ، يعني الإستقرار والإستقامة ، وعدم التزلزل فيه.
وعليه : الراسخ في العلم ، هو الذي استقرَّ واستقام في علمه ، ولم يدخله تزلزل أو تردد ، قد بنى معلوماته على اليقين والإستحكام ، ببعدها عن الشك والريب.
٢- العلم : إسم محلى بالألف واللام ، يفيد العموم ، يعني جميع أنواع العلوم ، فالمقصود منه في الآية المباركة : جميع أصناف العلوم ، وكل ما من شأنه أنْ يُسمَّى علماً ، ظاهراً كان أم باطناً ، لفظاً كان أم معنى.
وإذا قلنا : إنَّ المقصود من «العلم» جميع علوم القرآن ، فصحيح أيضاً ، لأنَّ القرآن يصف نفسه أنه يحوي جميع العلوم كما تشير الآية الشريفة : {وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} (الأنعام : ٥٩) .
وقد ذكرنا في الجزء الأول (۱) من هذا الكتاب ، بحثاً مبسطاً ، مستدلاً بأنَّ القرآن الكريم خزانة جميع العلوم والفنون ، فعلى من أراد المزيد في هذا المجال أن يرجع إليه.
والمحصل من هذا كله : إنَّ {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعني: أولئك الذين أحاطوا بكل العلوم والفنون ، وعلمهم ثابت ومستقر ، بحيث لا يدخلهم أي شك ، وتردد ، أو زوال ، أو تغيير.
وإذا تصفحنا تاريخ رجالات العلم في العالم ، ونظرنا إلى ماهية علومهم ، وكيفيتها ، بشكل دقيق ، وقسنا نتائج آثارهم ، كما يحكيه التاريخ ، فسنتوصل إلى الحقيقة الساطعة التي تفيد بأن وسام {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، لا يستحقه إلا من رباه الله ، وهيأه لإبلاغ رسالته إلى خلقه عموماً ، وعلى وجه الخصوص ، خاتمهم وآخرهم محمد (ص) ، وأهل بيته الكرام المعصومين (ع) ، الذين غرفوا من ينابيع علمه الصافي ، فصاروا معادن كلماته ، وخـزَّان علمه ...
كما يتبين ويتضح إنَّ هذا اللباس القدسي لا يليق إلا لقامة أولئك المقدسين فقط ، لأنهم هم المرتبطون مع الملكوت ، والمحيطون ـ بتعليم الله إياهم - بكل العلوم ، وعلمهم بعلوم القرآن ، وعجائب الإبداع فيه ، ثابت ومستقر على نحو الإحاطة ، بحيث لا يتسرَّب إليه أيّ شك ، وتردد ، وتزلزل.
إنَّ أولئك الذين ليس لهم حظ من الغيب ، والعناية الربَّانية الخاصة ، واكتسبوا علمهم من أمثالهم ، وبشكل تدريجي ، ليس عندهم ما يؤهلهم لتلك المنزلة السامية ، والمقام الرفيع {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} إلا عن طريق المجاز ، وقد أثبت التاريخ ، كما تشهد كتب التراجم ، أنَّ أولئك الذين استندت معلوماتهم إلى
المراحل الإكتسابية ، لم يحيطوا بالعلوم المختلفة ، بل كانت لديهم علوم محدودة ، وأنهم غالباً مهزومون بالتطور البسيط للعلم الذي يحوونه ، ولم يبدوا أي ثبات واستقرار ، فسلموا لفشل نظرياتهم.
وكم من هؤلاء العلماء ، من بذل جهداً متواصلاً لسنين من العمر ، لكشف حقيقة ، أو التوصل إلى معرفة ، ولكنهم بعد جهد عادوا يائسين من الظفر بها وتحصيلها!
وكم منهم من اعتقد بحقيقة ، والتزم بنظرية ، في مجال من مجالات العلم ، ولكنهم سرعان ما تراجعوا عنها ، وأعلنوا التزامهم بعكس ذلك!
وكم منهم من الذين ماتوا على الإلتزام بنظريتهم ، فجاء تلامذتهم ليصححوا ما التزم به الأساتذة ، بعد إبطالها!
إنَّ هذه كلها دلائل كافية لعدم استقرار العلوم الإكتسابية عند هؤلاء.
ولكن التاريخ يسجل هذه الحقيقة:
إنَّ الأنبياء والأولياء ، ومحمداً (ص) وآل محمد (ع) ، على وجه الخصوص ، وحدهم الذين ثبتوا في نظرياتهم ، واستقاموا على ما جاؤوا به ، وإنَّ مرور القرون المتطاولة على تاريخهم وكتبهم ، لم يغير من المفاهيم التي حملتها كتبهم ، وهي ما زالت على قوتها واستحكامها ، وكأن العهد قريب من ظهورها وانتشارها.
إن (إنشتاين) (۱) ذلك العالم والفيلسوف الكبير يعترف بهذه الحقيقة ، ويقول قولته المنصفة:
«إنَّ الحقائق العلمية الكونية المستندة إلى الأدلة المذهبية ، أقوى وأثبت ، وأجدر ، بالتحقيق ، والتتبع العلمي».
ومحصَّل هذه المقدمات : إنَّ المقصود من {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، بالمنظار الحقيقي والواقعي ، هم أساتذة القرآن ، والمنصوص عليهم من قبل رب القرآن ، وهم محمد (ص) ، وآل محمد (ع) ، دون سواهم ، وإذا أطلقت على تلامذتهم الأفذاذ ، أمثال: عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما ، فإنه من باب المجاز ، ولأنهم استقوا علومهم من تلك الينابيع العذبة ، واهتدوا طريقهم بنور علومهم الواقعية ، ولأنهم أخذوا من فتات تلك الموائد ، وأصابهم رشحات من أمواج بحار علوم أولئك العظمآء ...
وإليك رواية صريحة في ذلك ننقلها استدلالاً وتوضيحاً للمقام:
نقل العلامة الخوئي (١) ، في كتاب «منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة» (۲) ، عن كتاب (المناقب) (۳) لابن شهر آشوب (٤) ، يرويها عن أبي القاسم الكوفي ، أنه قال: إنَّ {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، هم الذين جعلهم الرسول الأكرم (ص) ، عدلاً للقرآن الكريم ، في الحديث المشهور:
«إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (۱) . وهو حديث صحيح ، ومسلم به عند الفريقين.
ثم يعقب صاحب (المناقب) فيقول : «الراسخ : في اللغة ، بمعنى اللازم والثابت ، واللازم : ما لا يتغير ، ولا يتحول ، ولا يزول . وهذه الصفات لا تتوفر في أحد إلا من طبعه الله بالعلم والمعرفة ، من حين خلقته ، مثل عيسى (ع) ، الذي قال في حين ولادته: {إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتانِيَ الْكِتابَ} (مريم : ٣٠) ، ولكن الذين قضوا شطراً من عمرهم في الجهل ، ثم حصلوا بعض العلم على قدر طاقتهم واستيعابهم ، لم تتوافر فيهم صلاحية إحراز هـذا الموقع الرفيع».
وهذا دليل عقلي آخر في حصر تطبيق {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، على محمد (ص) ، وآل محمد (ع) ، والسفراء الإلهيين الذين كانت لديهم علوم لدنية (١).
وبالعودة إلى البحث من خلال الأخبار والأحاديث ، نقول:
إنَّ من المسلَّم عند جميع المسلمين: أنَّ علي بن أبي طالب (ع) ، أعلم الصحابة بعد رسول الله (ص) ، وأنهم متفقون ومجمعون أنه عليه السلام: المرجع في جميع علوم القرآن ، من التفسير والتأويل ، والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، والناسخ والمنسوخ ، وغيرها من أسراره ورموزه ...
وانهم معترفون انَّ المسلمين جميعاً بحاجة إليه في فهم القرآن ، وحل مشكلاته ، ولكنه لم يحتج هو إلى غيره منوالصحابة على الإطلاق!
وما أكثر ما لدينا من الأدلة والأخبار ، من كتب الفريقين ، التي تثبت أنَّ علماء الصدر الأول ، والخلفاء الثلاثة ، رجعوا إلى علي بن أبي طالب (ع) ، والتجأوا إليه في فهم ودرك حقائق القرآن ، وحل مشكلاتهم العلمية المستعصية عليهم …
وكم من شواهد تاريخية تبين أنَّ كبار الصحابة ، والقيمين على الإسلام والمسلمين ، أفتوا بغير ما أنزل الله ، من خلال جهلهم بالقرآن ، وحقائق القرآن (۲) ، وكادوا أنْ يقعوا في المهالك والمهاوي ، لولا الأستاذ الواقعي للقرآن ، أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب (ع) ، الذي كان يدركهم بعلمه ، وينجيهم من انحرافهم ، حفاظاً على الشرع المقدس ، وإحياء له ، وضماناً لاستمراره ، ونذكر بعض تلك الشواهد ، للتثبت وازدياد اليقين: