الوليد بن المغيرة والقرآن الكريم

 الوليد بن المغيرة والقرآن الكريم 

والوليد بن المغيرة : وحيد الحجاز والعرب ، وكانت قبيلته «بنو مخزوم» تسمى بـ «ريحانة قريش» ، لمكانتها الإجتماعية العالية . وكانت له ثروة كبيرة ، منها قافلة تجارية بين (مكة) ، و (الطائف) في الحجاز ، و (الشام) ، و (اليمن) . وكان له عشرة أولاد أبطال وشجعان ، منهم : «خالد بن الوليد» (۲) فاتح الشام ، و «الوليد بن الوليد» الذي كان من المسلمين الأوائل ، و «عمارة بن الوليد» الذي أمرته قريش بالذهاب مع «عمرو بن العاص» لملاحقة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة ، وكانت له قضايا مع عمرو بن العاص وزوجته (۱) ، ومواقف مع ملك الحبشة. 


وعلى كل حال ، ازداد الوليد شهرة وموقعاً ، من خلال أولاده ، بالإضافة إلى تجارته وأسفاره الكثيرة ، إلى (الشام) ، و(اليمن) ، ومقابلته لعلماء وأدباء تلك البقاع ، ومخالطتهم ، مما أدَّت به لكسب بعض الآداب ، والأخلاق ، والبلاغة والشعر ، فاحترمه الناس ، وأكبروه ، وعظموه ، حتى قالت قريش ، بعد ما نزل القرآن على محمد (ص) ، كما يحكي ذلك القرآن الكريم: 

{لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (۱) ، يعنون بذلك «الوليد بن المغيرة» في (مكة) ، و «عروة بن مسعود الثقفي » (۲) في (الطائف).


نعم ، فكر أبو جهل أنْ يتدرع بالوليد ، وهو خاله ، فجاء إليه مبعوثاً من قريش ، وقال له : تقول قريش: لماذا سكت الوليد تجاه محمد ودعوته؟! ولماذا لم يُعط الوليد رأيه ، ليصدَّ هذه الدعوة ويخمدها؟


فسكت الوليد هنيهة ، ثم رفع رأسه قائلاً: إني لم أسمع محمداً يجهر بدعوته إلى الآن ، ولا ينبغي لي أنْ أحكم عليه ، قبل أنْ أعرف عنه شيئاً ، أمهلني أسمع قرآنه ، فأقرر موقفي منه!.


وجاء الوليد إلى (البيت) لهذا الغرض ، وجلس خلف محمد (ص) ، في (حجر إسماعيل) ، ليسمع ما يقرأه محمد (ص) ، من القرآن.


فلما أحسَّ محمد (ص) ، أنَّ وحيد العرب وعظيمهم ، جالس خلفه ، جعل يقرأ آيات من سورة «غافر - المؤمن» ، وثم آيات من سورة «فصلت».


وما أنْ سمع الوليد الآيات المتلوة ، حتى تأثـر بهـا تـأثـراً بالغاً ، وجعل يرتجف من وقعها في قلبه ، ثم نهض من مكانه ، طالباً مجمع قريش ، الذين كانوا بانتظاره.


ولما تمثلوا بين يديه قال:

لقد طلبتم مني أن أُبدي رأيي في محمد (ص) ، ودعوته ، وأتكلم فيه ، فإني قد استمعت إلى آيات من تلاوة محمد ، وأنه لا يقال في دعوته أي شيء!! 


فإنْ قلتم : إنه شعر ، فإني قد سمعت الشعر كثيراً ، وأعرف أنواعه ، من الهزج والرجز ، والقصيد ، والغزل ، والمبسوط ، والمقبوض ، وكلام محمد لم يكن من كل هذه الأنواع!


وإنْ قلتم : إنه قول كاهن ، فإني لم أجد فيها أي تكهّن ، أو إخبار عن مولود ذكر ، أو أُنثى ، أو نفع ، أو ضرر ، أو موت ، أو حياة لأحد.


وإنْ نسبتم إليه الجنون ، فإني لم أجد فيه ما يدل على ذلك أبداً ، بل إنَّ له لحلاوة ، وإنَّ عليه لطلاوة ، وإنَّ أعلاه لمثمر ، وإنَّ أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه!!


لما سمعت قريش كلام الوليد هذا - ولم يتوقعوا حصوله منه ـ خابت آمالهم فيه ، وقالوا لأبي جهل:


لقد خيبنا الوليد ، ونرى أنَّ كلامه هذا ، واعترافه ، سـوف يؤدي إلى تقوية محمد ، وتثبيت دعوته وإسلامه!


فقال أبو جهل: أتركوا لي أمر الوليد ، ولسوف ألتقي به ، وأصحح فكره …


وفي المساء ، جاء أبو جهل إلى دار الوليد ، وجلس بجانبه ، ساكتاً عبوساً ، فسأله الوليد عن ذلك ، فأجابه أبو جهل: إنَّهُ من أجلك ، وحرصاً على مكانتك في قريش ، فإنهم يقولون: إنَّ الوليد تأثر بموائد أصحاب محمد اللذيذة ، وانحرف عن أصنامه وعقيدته ، وقبل دعوة محمد ، ويدعمه فيها!!


فغضب الوليد وقال: أفيَّ يقال هذا الكلام؟ وعليَّ يُفترى بأني انقلبت عن ديني بلقمة أصحاب محمد؟! لا ينبغي أنْ أُهان ، ويُحط من موقعي بمثل هذا الكلام!!


فقال أبو جهل : إذا كان كذلك ، فلا بدَّ أنْ تقول في محمد ودعوته شيئاً يعاكس اعترافك به ، ويمحو كلامك الذي قلت في مدحه وصدقه! وإلا فستبقى قريش تقول فيك ما لا يرضيك!


فاستمهله أبو جهل ليلته ، ليفكر في كلام يقوله في محمد ، يشينه به ، بحيث لم يخالف صريح الكلام الذي قاله بالأمس ، فتقول الناس فيه كلاماً يمسّ عقله وفكره …


فكر الوليد ليلته تلك ، في كلام يخرجه من المأزق الذي وقع فيه ، ودرس جميع جوانب المسألة ، وأقنع نفسه بأنه لا بد أنْ يقول فيه كلاماً قصيراً قاسياً ، يقضي على محمد ودعوته ، فقال: لا بدَّ من نسبة السحر إليه ، ولكن ليس سحراً عادياً يُعاكس ، ويُبطل ، ويُغلب عليه ، ثم قال فيه: «إنه سحر يؤثر!» . إنه الموقف الذي يذكره القرآن في الآيات التالية:

{ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَ بَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(٢٩)} (١).


وكذلك نزلت في هذا المعاند آيات أخرى في سورة القلم: 

{أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)} (١).


لقد تحقق هذا الوعيد الإلهي ، في هذا المعاند وأمثاله ، بانتشار الدعوة الإسلامية ، ودخول أفواج الناس في الدين الجديد ، بعد أنْ تفاعل مع قلوبهم وأفكارهم ، وراح الناس قديماً وحديثاً يظهرون إعجابهم وإكبارهم للقرآن ، معترفين بعمق مفاهيمه ، وهم على دينهم وملَّتهم ، حثهم وجدانهم وإنصافهم على الإفصاح عما يجدون في ضمائرهم ، من تعظيم وإجلال للقرآن ، من خلال مقالاتهم ، أو كتبهم ، بما ملأت المكتبات ، وخزائن الكتب ، ولم يسع كتابنا هذا ذكرها وتعدادها ، ولكن ننقل إليكم أبياتاً شعرية للشاعر والأديب المسيحي «مارون عبود» (۲) ، وهو رئيس الجامعة الوطنية اللبنانية ، حيث أبدى شعوره وأحاسيسه تجاه القرآن وعظمته وإجلاله ، من خلال قصيدة شعرية عنونها «النبي محمد» فقال: