من عادة أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن يتوفَّى الواحد منهم شهيداً ، إما بالسيف أو بالسمّ .
كما قال الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) لعبيد الله بن زياد في مجلسه لما أمر بقتله :
(أبالقتل تهددني يابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة ، وكرامتنا الشهادة) (۱) ، وقتل أئمة الهدى (عليه السلام) بالسيف أو السم إنما هو حسد من طغاة حكامهم لهم (عليه السلام)
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّـهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (۲) .
فالناس في هذه الآية هم محمد وآل محمد (عليهم السلام) ، والحسد لهم (عليهم السلام) ليس من الأعداء وحكام الجور فقط ، بل من أبناء عمّهم وإخوانهم ، كما حصل لنبيّ الله يوسف مع إخوته ، كما أخبر الله تعالى في كتابه ، وخصص سورة بكاملها لنبيّه يوسف (عليه السلام) تحمل اسمه ، لما تتضمّن هذه القصة من واقع نعيشه إلى الآن ، حيث قال سبحانه
{لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} (١) .
فيوسف أخوهم وهم أبناء الأنبياء ، فلحسدهم له أرادوا أن ينفِّذوا فيه جريمة قتل ، هي من أكبر الكبائر ، بسبب أنه أفضلهم وأُوتي النبوة دونهم ، وقال أحسن إخوته قولاً ألقوه في غيابة الجب أي ارموه في البئر واتركوه ، ثم لما جاءت قافلة تريد مصر ، باعوه بثمن بخس دراهم معدودة ، وكانوا فيه من الزاهدين ، وهي ثمانية عشر درهماً فقط ، ومعنى قوله سبحانه : وكانوا فيه من الزاهدين أي لو أُعطوا أقل من ثمانية عشر درهماً لباعوه ، وهو من عظماء الأنبياء صلى الله على نبينا وآله وعليه السلام .
فما جرى على الأنبياء وأولاد الأنبياء جرى على أهل البيت (عليه السلام) من أهلهم وأبناء عمومتهم ، رغم أنَّ أبا طالب والعباس أبوهما عبد المطلب ، وانظر ما فعلت بنو العباس في أبناء عمهم أبي طالب ، كما ذُكر من قبل ، في ظلم بني العباس لبني أبي طالب ، حتى أن أبا الفرج الأصفهاني ألف كتاباً ضخماً في مقاتل الطالبيين ، وبالخصوص من بني عمهم العباس ، قتلوا بني أبي طالب وشردوهم وسجنوهم ونفوهم من البلاد ، وبنوا عليهم في الأسطوانات كما مرَّ من قبل ، حتى أصبح ظلم بني العباس أكثر وأشد من ظلم بني أمية ، وذلك بسبب الحسد والحقد على أهل البيت (عليه السلام) ، غير أن الله فضلهم وطهرهم ، وأعلى شأنهم وجعلهم في بيوت أذن الله أن ترفع ، ويذكر فيها اسمه .
فممن سعى بالإمام موسى الكاظم (عليه السلام) إلى هارون العباسي ، ابن أخيه علي بن إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، وفي رواية أُخرى محمد بن إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، وفي رواية ثالثة أنَّ الذي سعى به هو أخو الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، وهو محمد ابن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) سعى به (عليه السلام) إلى هارون العباسي ، حسداً وطمعاً في حطام الدنيا ، كما روي في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق وغيره من كتب الحديث ، عن علي بن إبراهيم ، عن اليقطيني ، عن موسى بن القاسم البجلي ، عن علي بن جعفر قال :
(جاءني محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد ، وذكر لي أن محمد بن جعفر دخل على هارون الرشيد ، فسلم عليه بالخلافة ، ثم قال له : ما ظننت أن في الأرض خليفتين ، حتى رأيت أخي موسى بن جعفر يسلَّم عليه بالخلافة) (۱) .
في رجال الكشي : محمد بن قولويه القمي قال : حدثني بعض المشايخ ولم يذكر اسمه ، عن علي بن جعفر بن محمد قال :
(جاءني محمد بن إسماعيل بن جعفر يسألني ، أن أسأل أبا الحسن موسى (عليه السلام) ، أن يأذن له في الخروج إلى العراق ، وأن يرضى عنه ويوصيه بوصية ، قال فتجنب حتى دخل المتوضأ وخرج ، وهو وقت كان يتهيأ لي أن أخلو به وأُكلمه ، قال : فلما خرج قلت له : إن ابن أخيك محمد بن إسماعيل يسألك أن تأذن له في الخروج إلى العراق وأن توصيه ، فأذن (عليه السلام) له ، فلما رجع إلى مجلسه قام محمد بن إسماعيل ، وقال : يا عم أُحب أن توصيني ،
فقال : أُوصيك أن تتقي الله في دمي ،
فقال : لعن الله من يسعى في دمك، ثم قال : يا عمّ أوصني
فقال : أُوصيك أن تتقي الله في دمي،
قال : ثـم نـاولـه أبـو الحسن (عليه السلام) الصرة فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها محمد ، ثم ناوله أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها ، ثم أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها ، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده .
فقلت له في ذلك أستكثره،
فقال : هذا ليكون أوكد لحجتي إذا قطعني ووصلته .
قال : فخرج إلى العراق ، فلما ورد حضرة هارون ، أتى باب هارون بثياب طريقه قبل أن ينزل ، واستأذن على هارون ، وقال للحاجب :
قل لأمير المؤمنين إن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب،
فقال الحاجب : انزل أولاً وغيِّر ثياب طريقك ، وعد لأُدخلك إليه بغير إذن ، فقد نام أمير المؤمنين في هذا الوقت،
فقال : أعلم أمير المؤمنين أني حضرت ولم تأذن لي،
فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن إسماعيل ، فأمر بدخوله فدخل ،
قال : يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض ، موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج ، وأنت بالعراق يجبى لك الخراج،
فقال : والله! ؟
فقال : والله ،
قال : فأمر له بمائة ألف درهم ، فلما قبضها وحمل إلى منزله ، أخذته الذبحة في جوف ليلته فمات ، وحوِّل من الغد المال الذي حمل إليه (۱) .
انظر إلى العجلة لقتل الإمام الكاظم (عليه السلام) من ابن أخيه إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، وولاؤه لهارون العباسي الذي سيفه لم يجفّ من قتل العلويين وبني هاشم ، فذكر علماؤنا الإمامية وغيرهم من أصحاب الحديث ، استشهاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) بطرق متعددة ، مع إجماعهم على قتله مسموماً في سجن السندي بن شاهك ، بأمر هارون الرشيد بثلاثين رطبة مسمومة ، كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) .
فعن الشيخ الكشي في رجاله عن عبد الله بن طاووس قال :
(قلت للرضا (عليه السلام) : إن يحيى بن خالد سمَّ أباك موسى بن جعفر صلوات الله عليهما ؟ قال : نعم سمه في ثلاثين رطبة) (۱) .
فذكروا أنَّ السبب في أخذ موسى بن جعفر (عليه السلام) ، أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث ، فحسده يحيى بن خالد البرمكي ، وقال :
إن أفضت الخلافة إليه زالت دولتي ، ودولة ولدي .
فاحتال على جعفر بن محمد [الأشعث] - وكان يقول بالإمامة - حتى داخله وأنس إليه ، وكان يكثر غشيانه في منزله ، فيقف على أمره ، فيرفعه إلى الرشيد ، ويزيد عليه بما يقدح في قلبه ، ثم قال يوماً لبعض ثقاته :
أتعرفون لي رجلاً من آل أبي طالب ليس بواسع الحال ، يعرِّفني ما أحتاج إليه ، فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد ، فحمل إليه يحيى بن خالد مالاً ، وكان الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) يأنس إليه ويصله ، وربما أفضى إليه بأسراره كلها ، فكتب ليشخص به ، فأحس الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) بذلك فدعاه ،
فقال : إلى أين يابن أخي؟
قال : إلى بغداد
قال : وما تصنع ؟
قال : عليّ دين وأنا مملق ،
قال : فأنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع،
فلم يلتفت إلى ذلك،
فقال له : انظر يابن أخي لا تؤتم أولادي، وأمر له بثلاثمائة دينار ، وأربعة آلاف درهم .
فلما قام من بين يديه،
قال أبو الحسن موسى (عليه السلام) لمن حضره : والله ليسعينَّ في دمي ، ويؤتمن أولادي،
فقالوا له : - جعلنا الله فداك - فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله؟! ،
فقال لهم : نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله ، أن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله .
فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى إلى يحيى بن خالد ، فتعرف منه خبر موسى بن جعفر ، ورفعه إلى الرشيد ، وزاد عليه ، وقال له :
إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وإن له بيوت أموال ، وإنه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار فسماها اليسيرة ،
وقال له صاحبها وقد أحضر المال : لا آخذ هذا النقد ، ولا آخذ إلا نقد كذا ، فأمر بذلك المال فردَّ وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه ، فرفع ذلك كله إلى الرشيد ، فأمر له بمائتي ألف درهم ، يسبب له على بعض النواحي ، فاختار كور المشرق ، ومضت رسله ليقبض المال ، ودخل هو في بعض الأيام إلى الخلاء فزحر زحرة (۱) خرجت منها حشوته (٢) كلها فسقط ، وجهدوا في ردها فلم يقدروا ، فوقع لما به ، وجاءه المال وهو ينزع فقال :
ما أصنع به وأنا في الموت؟!
وحج الرشيد في تلك السنة فبدأ بقبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال :
يا رسول الله إني أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله ، أريد أن أحبس موسى بن جعفر ، فإنه يريد التشتت بين أُمتك ، وسفك دمائها ، ثم أمر به فأُخذ من المسجد ، فأُدخل إليه فقيَّده ، وأُخرج من داره بغلان ، عليهما قبتان مغطاتان ، هو في إحداهما ، ووجه مع كل واحدة منهما خيلاً ، فأُخذ بواحدة على طريق البصرة ، وبالأُخرى على طريق الكوفة ، ليعمّي على الناس أمره ، وكان في التي مضت إلى البصرة ، وأمر الرسول أن يسلمه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان على البصرة حينئذ ، فمضى به فحبسه عنده سنة .
ثم كتب إلى الرشيد أن خُذه مني ، وسلمه إلى من شئت ، وإلا خليت سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة ، فما أقدر على ذلك ، حتى أني لأتسمَّع عليه إذا دعا لعله يدعو عليّ أو عليك ، فما أسمعه يدعو إلا لنفسه ، يسأل الرحمة والمغفرة .
فوجَّه من تسلَّمه منه وحبسه عند الفضل ابن الربيع ببغداد ، فبقي عنده مدة طويلة ، وأراده الرشيد على شيء من أمره فأبى فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلمه منه ، وأراد ذلك منه فلم يفعل ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ، وهو حينئذ بالرقة .
فأنفذ مسروراً الخادم إلى بغداد على البريد ، وأمره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه ، أوصل كتاباً منه إلى العباس بن محمد ، وأمره بامتثاله ، وأوصل منه كتاباً آخر إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس .
فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى ، لا يدري أحد ما يريد ، ثم دخل على موسى بن جعفر (عليه السلام) فوجده على ما بلغ الرشيد ، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي فأوصل الكتابين إليهما .
فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى ، فركب معه وخرج مشدوهاً دهشاً حتى دخل على العباس ، فدعا بسياط وعقابين ، فوجه ذلك إلى السندي وأمره بالفضل بن يحيى ، فجُرِّد ثم ضربه مائة سوط ، وخرج متغير اللون خلاف ما دخل ، فأُذهبت نخوته ، فجعل يسلم على الناس يميناً وشمالاً .
وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد ، فأمر بتسليم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى السندي بن شاهك ، وجلس مجلساً حافلاً ، وقال :
أيها الناس إن الفضل بن يحيى قد عصاني ، وخالف طاعتي ، ورأيت أن ألعنه فالعنوه ، فلعنه الناس من كل ناحية ، حتى ارتج البيت والدار بلعنه .
وبلغ يحيى بن خالد ، فركب إلى الرشيد ، ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه ، حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ، ثم قال :
التفت إليّ يا أمير المؤمنين ، فأصغى إليه فزعاً ،
فقال له : إن الفضل حدث ، وأنا أكفيك ما تريد ، فانطلق وجهه وسرّ .
وأقبل على الناس فقال : إن الفضل كان عصاني في شيء فلعنته ، وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه ،
فقالوا له : نحن أولياء من واليت ، وأعداء من عاديت وقد توليناه .
ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد ، فماج الناس وأرجفوا بكل شيء ، فأظهر أنه ورد لتعديل السواد ، والنظر في أمر العمال وتشاغل ببعض ذلك ، ودعا السندي فأمره فيه بأمره فامتثله .
وسأل الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) السندي عند وفاته ، أن يحضره مولىّ له ، ينزل عند دار العباس بن محمد ، في أصحاب القصب ليغسله ففعل ذلك) (۱) .
وطلبُ الإمام الكاظم (عليه السلام) من السندي إحضار مولى للإمام (عليه السلام) ، هو للحفاظ على الإمام علي الرضا (عليه السلام) ، والتقية من الأعداء ، وإلا فإنّ المنصوص عليه من أهل البيت (عليه السلام) أن الإمام لا يغسله ولا يكفنه ولا يصلي عليه إلا إمام .
وفي رواية المسيب يتبيّن أن الإمام الرضا (عليه السلام) غسل والده من دون أن يراه أحد إلا المسيب ، روي عن أبي محمد الحسن بن علي الثاني (عليه السلام) ، قال :
(إن موسى (عليه السلام) قبل وفاته بثلاثة أيام دعا المسيب ، وقال له :
إني ظاعن عنك في هذه الليلة إلى مدينة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لأعهد إلى من بها عهداً أن يعمل به بعدي .
قال المسيب : قلت : مولاي كيف تأمرني والحرس والأبواب! كيف أفتح لك الأبواب والحرس معي على الأبواب ، وعليها أقفالها؟!
فقال : يا مسیب ، ضعفت نفسك في الله وفينا؟! قلت : يا سيدي ، بيِّن لي .
فقال : يا مسيب ، إذا مضى من هذه الليلة المقبلة ثلثها ، فقف فانظر .
قال المسيب : فحرمت على نفسي الانضجاع في تلك الليلة ، فلم أزل راكعاً وساجداً وناظراً ما وعدنيه ، فلما مضى من الليل ثلثه غشيني النعاس وأنا جالس ، فإذا أنا بسيدي موسى يحركني برجله ، ففزعت وقمت قائماً ، فإذا بتلك الجدران المشيدة ، والأبنية المعلاة ، وما حولنا من القصور والأبنية ، قد صارت كلها أرضاً ، فظننت بمولاي أنه أخرجني من المحبس الذي كان فيه ، قلت ، مولاي خذ بيدي من ظالمك وظالمي .
فقال : يا مسيب ، تخاف القتل؟
قلت : مولاي معك لا .
فقال : يا مسيب فاهدأ على حالتك ، فإنني راجع إليك بعد ساعة واحدة ، فإذا وليت عنك ، فسيعود المحبس إلى شأنه .
قلت : يا مولاي ، فالحديد الذي عليك ، كيف تصنع به؟
فقال : ويحك يا مسيب! بنا والله ألان الله الحديد لنبيّه داود ، كيف يصعب علينا الحديد؟!
قال المسيب : ثم خطا ، فمر بين يدي خطوة ، ولم أدرِ كيف غاب عن بصري ، ثم ارتفع البنيان وعادت القصور على ما كانت عليه ، واشتد اهتمام نفسي ، وعلمت أن وعده الحق ، فلم أزل قائماً على قدمي ، فلم ينقضِ إلا ساعة كما حدَّه لي ، حتى رأيت الجدران والأبنية قد خرَّت إلى الأرض سجداً ، وإذا أنا بسيدي (عليه السلام) وقد عاد إلى حبسه ، وعاد الحديد إلى رجليه ، فخررت ساجداً لوجهي بين يديه،
فقال لي : ارفع رأسك يا مسيب ، واعلم أن سيدك راحل عنك إلى الله ، في ثالث هذا اليوم الماضي .
فقلت : مولاي ، فأين سيدي علي؟
فقال : شاهد غیر غائب یا مسیب ، وحاضر غير بعيد ، يسمع ويرى .
قلت : يا سيدي، فإليه قصدت؟
قال : قصدت والله يا مسيب ، كل منتخب لله على وجه الأرض شرقاً وغرباً ، حتى الجن في البراري والبحار ، حتى الملائكة في مقاماتهم وصفوفهم .
قال : فبكيت .
قال : لا تبكِ يا مسيب ، إنّا نور لا نطفأ ، إن غبت عنك ، فهذا علي ابني يقوم مقامي بعدي ، هو أنا .
فقلت : الحمد لله .
قال : ثم إن سيدي في ليلة اليوم الثالث دعاني
فقال لي : يا مسيب ، إن سيدك يصبح من ليلة يومه على ما عرَّفتك من الرحيل إلى الله (تعالى) ، فإذا أنا دعوت بشربة ماء فشربتها فرأيتني قد انتفخت بطني يا مسيب ، واصفر لوني ، واحمر ، واخضر ، وتلون ألواناً ، فخبر الظالم بوفاتي ، وإياك بهذا الحديث أن تظهر عليه أحداً من عندي إلا بعد وفاتي .
قال المسيب : فلم أزل أترقب وعده ، حتى دعا بشربة الماء فشربها ، ثم دعاني
فقال : إن هذا الرجس السندي بن شاهك ، سيقول إنه يتولى أمري ودفني ، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً! فإذا حملت نعشي إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش ، فالحدوني بها ، ولا تعلوا على قبري علواً واحداً ، ولا تأخذوا من تربتي لتتبركوا بها ، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي (عليه السلام) ، فإن الله جعلها شفاءً لشيعتنا وأوليائنا .
قال : فرأيته تختلف ألوانه وتنتفخ بطنه ،
ثم قال : رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به ، جالساً إلى جانبه في مثل هيئته ، وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) في ذلك الوقت غلاماً ، فأقبلت أريد سؤاله ، فصاح بي سيدي موسى (عليه السلام) :
قد نهيتك يا مسيب ، فتوليت عنهم ، ولم أزل صابراً حتى قضى ، وعاد ذلك الشخص .
ثم أوصلت الخبر إلى الرشيد ، فوافي الرشيد وابن شاهك ، فوالله ، لقد رأيتهم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه ويحنطونه ويكفنونه ، وكل ذلك أراهم لا يصنعون به شيئاً ، ولا تصل أيديهم إلى شيء منه ، ولا إليه ، وهو مغسول ، مكفن ، محنط ، ثم حمل ودفن في مقابر قريش ، ولم يعل على قبره إلى الساعة وبقي في الحديث ما لم يحسن ذكره مما فعله الرشيد به) (۱) .
ففي هذه الرواية إبطال لمذهب الواقفية ، الذين يدعون أن الإمام علي ابن موسى الرضا (عليه السلام) لم يحضر جنازة والده الإمام الكاظم (عليه السلام) .
وروي أن الرشيد فكر في قتل موسى (عليه السلام) فدعا برطب فأكل منه ، ثم أخذ صينية ، فوضع فيها عشرين رطبة ، وأخذ سلكاً فتركه في السم ، وأدخله في الخياط وأخذ رطبة من ذلك الرطب ، وأقبل يردد السلك المسموم بذلك الخيط ، من رأس الرطبة إلى آخرها ، حتى علم أن السم قد تمكن فيها ، واستكثر منه ، ثم ردها في الرطب ، وقال لخادم له :
احمل هذه الصينية إلى موسى، وقل له : إن أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب ، وتنغص لك ، وهو يقسم عليك بحقه إلا ما أكلته عن آخره ، فإني اخترتها لك بيدي ، ولا تتركه حتى لا يبقي منه شيئاً ، ولا يطعم منه أحداً .
فأتاه بها الخادم ، وأبلغه الرسالة ، فقال له : ائتني بخلالة (۱) فناوله خلالة ، وأقام بإزائه وهو يأكل الرطب ، وكان للرشيد كلبة أعز عليه من كل ما كان في مملكته ، فجرَّت نفسها وخرجت بسلاسل ذهب وفضة كانت في عنقها ، حتى حاذت موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فبادر بالخلالة إلى الرطبة المسمومة فغرزها ، ورمى بها إلى الكلبة ، فأكلتها ، فلم تلبث الكلبة أن ضربت بنفسها الأرض ، وعوت حتى تقطعت قطعاً قطعاً ، واستوفى (عليه السلام) باقي الرطب ، وحمل الغلام الصينية إلى الرشيد ، فقال له :
أكل الرطب عن آخره؟
قال : نعم يا أمير المؤمنين .
قال : فكيف رأيته؟
قال : ما أنكرت منه شيئاً يا أمير المؤمنين .
قال : ثم ورد خبر الكلبة ، وأنها قد تهرأت وماتت ، فقلق الرشيد لذلك قلقاً شديداً ، واستعظمه ، ومر على الكلبة ، فوجدها متهرِّئة بالسمّ ، فدعا الخادم ، ودعا بالسيف والنطع،
قال : لتصدقني عن خبر الرطب وإلا قتلتك .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إني حملت الرطب إليه ، وأبلغته رسالتك ، وقمت بإزائه ، فطلب خلالة فدفعت إليه خلالة ، فأقبل يغرز الرطبة بعد الرطبة يأكلها ، حتى مرت به الكلبة ، فغرز رطبة من ذلك الرطب ، ورمى بها إلى الكلبة ، فأكلتها ، وأكل باقي الرطب ، فكان ما ترى .
فقال الرشيد ما ربحنا من موسى إلا أنا أطعمناه جيد الرطب ، وضيعنا سمنا ، وقتلنا كلبتنا) (١) .
انظر إلى خسّة الرشيد العباسي وعداوته للإمام (عليه السلام) ، حيث يحزن على كلبة ، ولا يأسف لقتل ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويقطع أنه إمام مفترض الطاعة .
فلمّا دخل الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) على هارون العباسي وأعظمه وبجّله ،
قال ابنه المأمون فلما خلا المجلس ، قلت : يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد عظمته وأجللته ، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته ، وأقعدته في صدر المجلس ، وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟
قال: هذا إمام الناس ، وحجة الله على خلقه ، وخليفته على عباده،
فقلت : يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟!
فقال : أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق ، والله يا بنيّ إنه لأحق بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مني ، ومن الخلق جميعاً ، ووالله لو نازعتني هذا الأمر ، لأخذت الذي فيه عيناك ، فإن الملك عقيم) (٢) .
نعم ، الملك والحسد يُعميان ويُصمّان .
قال : وسأل السندي بن شاهك أن يكفن الإمام ، فأبى الإمام الكاظم (عليه السلام) ، وقال :
(إنا أهل بيت مهور نسائنا ، وحج صرورتنا ، وأكفان موتانا من طُهرة(١) أموالنا ، وعندي كفني) .
وينقل أنه قبل استشهاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) بأيام دخل عليه علي بن سويد في السجن ، وقال له مولاي متى الفرج إن شيعتك تنتظر خروجك ،
قال له الإمام الكاظم (عليه السلام) قل لهم الموعد يوم الجمعة على جسر بغداد ، فخرج علي بن سويد فرحاً مسروراً ، وأخبر الشيعة أن الإمام سيخرج يوم الجمعة عند جسر بغداد .
ثم نودي عليه : هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت ، فانظروا إليه ، فنظروا إليه .
قالوا : وحمل فدفن في مقابر قريش ، فوقع قبره إلى جانب رجل من النوفليين يقال له عيسى بن عبد الله) (٢) .
فكلمة الرافضة تطلق على شيعة أهل البيت (عليه السلام) من القرن الثالث الهجري إلى القرن الخامس عشر الآن .
وفي عيون المعجزات : في كتاب الوصايا لأبي الحسن علي بن محمد بن زياد الصيمري وروي من جهات صحيحة ، أن السندي بن شاهك حضر بعدما كان بين يديه السم في الرطب ، وأنه (عليه السلام) أكل منها عشر رطبات ،
فقال له السندي : تزداد؟
فقال له (عليه السلام) : حسبك قد بلغت ما يحتاج إليه في ما أُمرت به،
ثم إنه أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيام وأخرجه إليهم، وقال :
إن الناس يقولون : إن أبا الحسن موسى في ضنك وضر ، وها هو ذا لا علة به ، ولا مرض ولا ضر .
فالتفت (عليه السلام) فقال لهم : اشهدوا عليّ أني مقتول بالسم ، منذ ثلاثة أيام ، اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم ، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة ، وأصفر غداً صفرة شديدة ، وأبيض بعد(۱)
فلما سمع السندي بن شاهك أخذ يرتجف مثل السعفة لعنه الله ما بقيت السماوات والأرضون .
ذكر ابن شهر آشوب أنه لمّا مات (عليه السلام) أخرجه السندي ووضعه على الجسر ببغداد ونودي :
(هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه .
وإنما قال ذلك لاعتقاد الواقفة أنه القائم وجعلوا حبسه غيبة القائم ، فنفر بالسندي فرسه نفرة وألقاه في الماء ، فغرق فيه ، وفرق الله جموع يحيى بن خالد) (٢) إلى النار وبئس القرار