وهذا دعاء آخر للإمام موسى الكاظم (عليه السلام) للخروج من السجن روي في العيون والبحار والأمالي للشيخ المفيد وفي كتب الأدعية عن ما جيلويه ، عن علي ، عن أبيه قال : سمعت رجلاً من أصحابنا يقول :
(لما حبس الرشيد موسى بن جعفر (عليه السلام) ، جنَّ عليه الليل فخاف ناحية هارون أن يقتله ، فجدد موسى (عليه السلام) طهوره ، واستقبل بوجهه القبلة ، وصلى لله عزّ وجلّ أربع ركعات ، ثم دعا بهذه الدعوات فقال :
«يا سيدي نجِّني من حبس هارون ، وخلصني من يده ، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء ، خلصني من يدي هارون» .
قال : فلما دعا موسى (عليه السلام) بهذه الدعوات ، أتى هارون رجل أسود في منامه وبيده سيف قد سلَّه ، فوقف على رأس هارون وهو يقول :
يا هارون أطلق عن موسى بن جعفر وإلا ضربت علاوتك بسيفي هذا ، فخاف هارون من هيبته ثم دعا الحاجب فجاء الحاجب
فقال له : اذهب إلى السجن ، فأطلق عن موسى بن جعفر
قال : فخرج الحاجب فقرع باب السجن ، فأجابه صاحب السجن
فقال : من ذا ؟
قال : إن الخليفة يدعو موسى بن جعفر فأخرجه من سجنك ، وأطلق عنه .
فصاح السجان : يا موسى إن الخليفة يدعوك .
فقام موسى (عليه السلام) مذعوراً فزعاً وهو يقول :
لا يدعوني في جوف هذا الليل إلا لشر يريد بي،
فقام باكياً حزيناً مغموماً آيساً من حياته ، فجاء إلى هارون وهو ترتعد فرائصه فقال :
سلام على هارون فرد عليه السلام ،
ثم قال له هارون : ناشدتك بالله هل دعوت في جوف هذه الليلة بدعوات؟
فقال : نعم ،
قال : وما هن؟
قال : جددت طهوراً ، وصليت لله عزّ وجلّ أربع ركعات ، ورفعت طرفي إلى السماء وقلت :
«يا سيدي خلصني من يد هارون وذكره وشرّه» ، وذكر له ما كان من دعائه ،
فقال هارون قد استجاب الله دعوتك ، يا حاجب أطلق عن هذا ، ثم دعا بخلع فخلع عليه ثلاثاً ، وحمله على فرسه ، وأكرمه وصيَّره نديماً لنفسه،
ثم قال : هات الكلمات ، فعلَّمه فأطلق عنه ، وسلمه إلى الحاجب ليسلمه إلى الدار ويكون معه ، فصار موسى بن جعفر (عليه السلام) كريماً شريفاً عند هارون ، وكان يدخل عليه في كل خميس ، إلى أن حبسه الثانية ، فلم يطلق عنه حتى سلمه إلى السندي بن شاهك وقتله بالسم) (١) .
إنَّ خوف الإمام الكاظم (عليه السلام) وبكاءه ليسا ـ والعياذ بالله ـ عن ضعف ، إنما ذلك لإظهار الجانب البشري للإمام (عليه السلام) ، ولإظهار المصيبة عند الخلق ، فلولا ذلك لما عرفت مصيبة الإمام (عليه السلام) وبقية الأئمة سلام الله عليهم ، لذا لمَّا تقرأ مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) تجده يشرف على الموت عند رؤية مصيبة ولده علي الأكبر (عليه السلام) ، وكذا يبكي على أخيه أبي الفضل العباس (عليه السلام) ، ومن قتل من أهل بيته وأصحابه ، ومن تتبع سيرة أهل البيت (عليه السلام) يجد هذا الأمر واضحاً جلياً ، لإظهار المصيبة للخلق ، وإلا لما تعرف مصائب أهل البيت (عليه السلام) ، فالنبي ، وهو أفضل الخلائق وسيد الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بكى لوفاة ابنه إبراهيم (عليه السلام) والمصائب التي ستحلّ بأهل بيته وبذرّيّته من بعده .