ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري أنه لمّا اشتد غضب الرشيد جعل يقطع الأيدي من أولاد فـاطـمـة ، ويـسـمـل فـي الأعين ، وبنى في الأسطوانات ، حتى شردهم في البلدان ، ومن جملتهم القاسم ابن الإمام موسی بن جعفر (عليه السلام) ، أخذ جانب الشرق لعلمه أن هناك جده أمير المؤمنين ، جعل يتمشى على شاطئ الفرات ، وإذا هو ببنتين تلعبان في التراب ، إحداهما تقولُ للأُخرى لا وحق الأمير صاحب بيعة يوم الغدير ، ما كان الأمر كذا وكذا ، وتعتذر من الأخرى فلما رأى عذوبة منطقها ، قال لها : من تعنين بهذا الكلام؟
قالت : أعني الضارب بالسيفين ، والطاعن بالرمحين ، أبا الحسن والحسين ، علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
قال لها : يا بنية هل لك أن ترشديني إلى رئيس هذا الحي؟
قالت : نعم إن أبي كبيرهم فمشت ومشى القاسم خلفها ، حتى أتت إلى بيتهم ، فبقي القاسم ثلاثة أيام بعز واحترام ، فلما كان اليوم الرابع دنا القاسم من الشيخ ،
وقال له : يا شيخ أنا سمعت ممن سمع من رسول الله ، أن الضيف ثلاثة ، وما زاد على ذلك يأكل صدقة ، وإني أكره أن آكل الصدقة ، وإني أريد أن تختار لي عملاً أشتغل فيه لئلا يكون ما أكله صدقة،
فقال الشيخ : اختر لك عملاً ،
فقال له القاسم : اجعلني أسقي الماء في مجلسك،
فبقي القاسم على هذا ، إلى أن كانت ذات ليلة خرج الشيخ في نصف الليل في قضاء حاجة له ، فرأى القاسم صافّاً قدميه ، ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد ، فعظم في نفسه ، وجعل الله محبة القاسم في قلب الشيخ ، فلما أصبح الصباح جمع عشيرته ،
وقال لهم : أُريد أن أُزوج ابنتي من هذا العبد الصالح فما تقولون؟
قالوا نَعم ما رأيت فزوجه من ابنته ، فبقي القاسم عندهم مدة من الزمان ، حتى رزقه الله منها ابنة ، وصار لها من العمر ثلاث سنين ، ومرض القاسم مرضاً شديداً ، حتى إذا دنا أجله وتصرمت أيامه ، جلس الشيخ عند رأسه يسأله عن نسبه ،
وقال : ولدي لعلك هاشمي،
قال له : نعم أنا ابن الإمام موسى ابن جعفر (عليه السلام) ،
فجعل الشيخ يلطم على رأسه وهو يقول : وا حيائي من أبيك موسى بن جعفر
قال له : لا بأس عليك يا عم ، إنك أكرمتني وإنك معنا في الجنة يا عم ، فإذا أنا متّ فغسّلني وحنّطني وكفّنّي وادفنّي ، وإذا صار وقت الموسم حجَّ أنت وابنتك وابنتي هذه ، فإذا فرغت من مناسك الحج ، اجعل طريقك على المدينة ، فإذا أتيت المدينة أنزل ابنتي على بابها ، فستدرج وتمشي ، فامشِ أنت وزوجتي خلفها ، حتى تقف على باب دار عالية ، فتلك الدار دارنا ، فتدخل البيت وليس فيها إلا نساء وكلهن أرامل ، ثم قضى نحبه ، فغسله وحنطه وكفنه ودفنه .
فلما صار وقت الحج حج هو وابنته وابنة القاسم ، فلما قضوا مناسكهم جعلوا طريقهم على المدينة ، فلما وصلوا إلى المدينة ، أنزلوا البنت عند بابها على الأرض ، فجعلت تدرج والشيخ يمشي خلفها ، إلى أن وصلت إلى باب الدار ، فدخلت ، فبقي الشيخ وابنته واقفين خلف الباب ، وخرجن النساء إليها واجتمعن حولها وقلن من تكونين؟ وابنة من؟ فلما قلن لها النساء : ابنة من تكونين؟ فلم تجبهم إلا بالبكاء والنحيب ، فعند ذلك خرجت أُم القاسم ، فلما نظرت إلى شمائلها ، جعلت تبكي وتنادي وا ولداه وا قاسماه ، والله هذه يتيمة ولدي القاسم ، فقلن لها من أين تعرفينها أنها ابنة القاسم؟
قالت : نظرت إلى شمائلها ، لأنها تشبه شمائل ولدي القاسم ، ثم أخبرتهم البنت بوقوف جدها وأمها على الباب ،
وقيل : إنها مرضت لما علمت بموت ولدها ، فلم تمكث إلا ثلاثة أيام (١) .
فأكثر ذرية الإمام الكاظم (عليه السلام) نفوا من أرضهم المدينة المنورة ، إلى شرق الأرض وغربها ، والدليل على ذلك تشتُّت قبورهم في البلاد.