وصيته (عليه السلام) لهشام وصفته للعقل : إن الله تبارك وتعالى بشَّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال :
{فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّـهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} (١).
يا هشام بن الحكم إنَّ الله عزّ وجلّ أكمل للناس الحجج بالعقول ، وأفضى إليهم بالبيان ، ودلهم على ربوبيته بالأدلاء ، فقال :
{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (٢) ، (٣)
يا هشام قد جعل الله عزّ وجلّ ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً ، فقال :
{وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (٤) .
وقال : {حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (٥)
وقال : {وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (٦)
يا هشام ثم وعظ أهل العقل ورغَّبهم في الآخرة ، فقال :
{وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ} (١) .
وقال : {وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ} (٢) .
يا هشام ثم خوَّف الذين لا يعقلون عذابه ، فقال عزّ وجلّ :
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ} (۳) .
يا هشام ثم بيَّن أن العقل مع العلم ، فقال :
{وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ} (٤) .
يا هشام ثم ذمَّ الذين لا يعقلون . فقال :
{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّـهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (٥) ،
وقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّـهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (٦) .
وقال : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّـهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (١)
ثم ذمَّ الكثرة ، فقال :
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّـهِ} (۲) ،
وقال : {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (۳). {وأكثرهم لا يشعرون} (٤) .
يا هشام ثم مدح القلة ، فقال : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (٥) .
وقال : {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (٦)
وقال : {وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (۷)
يا هشام ثم ذكر أُولي الألباب بأحسن الذكر وحلّاهم بأحسن الحِلْية ، فقال :
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ} (۸)
يا هشام إن الله يقول : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (۹) يعني العقل .
وقال : {وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ} (١٠) قال : الفهم والعقل .
يا هشام إنَّ لقمان قال لابنه :
«تواضع للحق تكن أعقل الناس . يا بنيّ إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الإيمان وشراعها التوكل ، وقيِّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكّانها الصبر» .
یا هشام لكل شيء دليل ، ودليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت . ولكل شيء مطية ، ومطية العاقل التواضع ، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه .
يا هشام لو كان في يدك جوزة ، وقال الناس : [في يدك] لؤلؤة ، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة ، ولو كان في يدك لؤلؤة ، وقال الناس : إنها جوزة ، ما ضرَّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة .
يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة لله ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
يا هشام ما من عبد إلا وملك آخذ بناصيته ، فلا يتواضع إلا رفعه الله ، ولا يتعاظم إلا وضعه الله .
يا هشام إنَّ لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسول والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول .
يا هشام إن العاقل ، الذي لا يشغل الحلال شكره ، ولا يغلب الحرام صبره .
يا هشام من سلط ثلاثاً على ثلاث ، فكأنما أعان هواه على هدم عقله : من أظلم نور فكره بطول أمله ، ومحا طرائف حكمته بفضول کلامه ، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنما أعان هواه على هدم عقله ، ومن هدم عقله ، أفسد عليه دينه ودنياه .
يا هشام كيف يزكو عند الله عملك ، وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربك ، وأطعت هواك على غلبة عقلك .
يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل ، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب في ما عند ربه [وكان الله] آنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ، ومعزه في غير عشيرة .
يا هشام نصب الخلق لطاعة الله ، ولا نجاة إلا بالطاعة ، والطاعة بالعلم ، والعلم بالتعلم ، والتعلم بالعقل يعتقد ، ولا علم إلا من عالم رباني ، ومعرفة العالم بالعقل .
يا هشام قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف ، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود .
يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة ، ولم يرضَ بالدون من الحكمة مع الدنيا ، فلذلك ربحت تجارتهم .
يا هشام إن كان يغنيك ما يكفيك ، فأدنى ما في الدنيا يكفيك ، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك ، فليس شيء من الدنيا يغنيك .
یا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا ، فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل ، وترك الذنوب من الفرض .
يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا ، ورغبوا في الآخرة ، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة ، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة ، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته .
يا هشام من أراد الغنى بلا مال ، وراحة القلب من الحسد ، والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله في مسألته ، بأن يكمل عقله ، فمن عقل قنع بما يكفيه ، ومن قنع بما يكفيه استغنى ، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً .
يا هشام إنَّ الله عزَّ وجلَّ حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا :
{رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (۱) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها .
إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله ، لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ، ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدِّقاً ، وسرّه لعلانيته موافقاً ، لأنّ الله لم يدل على الباطن الخفي من العقل ، إلا بظاهر منه وناطق عنه .
يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول :
ما من شيء عُبِد الله به أفضل من العقل ، وما تمَّ عقل امرىءٍ حتى يكون فيه خصال شتى :
الكفر والشر منه مأمونان ، والرشد والخير منه مأمولان ، وفضل ماله مبذول ، وفضل قوله مكفوف ، نصيبه من الدنيا القوت ، ولا يشبع من العلم دهره ، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره ، والتواضع أحب إليه من الشرف (٢) ، يستكثر قليل المعروف من غيره ، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه .
ويرى الناس كلهم خيراً منه ، وأنه شرّهم في نفسه (۳) ، وهو تمام الأمر .
يا هشام من صدَق لسانه زكا عمله ، ومن حسنت نيته زيد في رزقه ، ومن حسن برّه بإخوانه وأهلهُ مُدَّ في عمره .
يا هشام لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم .
يا هشام كما تركوا لكم الحكمة ، فاتركوا لهم الدنيا .
يا هشام لا دين لمن لا مروَّة له ، ولا مروَّة لمن لا عقل له ، وإن أعظم الناس قدراً ، الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً(١) ، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة ، فلا تبيعوها بغيرها .
يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول :
«لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال :
يجيب إذا سئل ، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ، ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله ، فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق».
وقال الحسن بن علي (عليه السلام) : «إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها»
قيل : يابن رسول الله ومن أهلها ؟
قال : «الذين قص الله في كتابه ذكرهم فقال : {إنما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ} (٢) قال : هم أُولو العقول».
وقال علي بن الحسين (عليه السلام) : «مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح . وأدب العلماء زيادة في العقل ، وطاعة ولاة العدل تمام العز ، واستثمار المال تمام المروّة ، وإرشاد المستشير قضاء لحقّ النعمة ، وكفّ الأذى من كمال العقل ، وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً» .
يا هشام إن العاقل لا يحدِّث من يخاف تكذيبه ، ولا يسأل من يخاف منعه ، ولا يعِد ما لا يقدر عليه ، ولا يرجو ما يعنَّف برجائه ، ولا يتقدم على ما يخاف العجز عنه ، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي أصحابه يقول :
«أُوصيكم بالخشية من الله في السر والعلانية ، والعدل في الرضا والغضب ، والاكتساب في الفقر والغنى ، وأن تصلوا من قطعكم ، وتعفوا عمن ظلمكم ، وتعطفوا على من حرمكم ، وليكن نظركم عِبَراً ، وصمتكم فِكْراً ، وقولكم ذِكْراً، وطبيعتكم السخاء ، فإنه لا يدخل الجنة بخيل ، ولا يدخل النار سخيّ» .
يا هشام رحم الله من استحيى من الله حق الحياء ، فحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وذكر الموت والبلى ، وعلم أن الجنة محفوفة بالمكاره ، والنار محفوفة بالشهوات .
يا هشام من كفّ نفسه عن أعراض الناس ، أقاله الله عثرته يوم القيامة ، ومن كفّ غضبه عن الناس ، كف الله عنه غضبه يوم القيامة .
یا هشام إن العاقل لا يكذب ، وإن كان فيه هواه .
يا هشام وجد في ذؤابة سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أن أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه ، وقتل غير قاتله ، ومن تولى غير مواليه ، فهو کافر بما أنزل الله على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن أحدث حدثاً ، أو آوى محدِثاً ، لم يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عِدْلاً .
يا هشام أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله بعد المعرفة به : الصلاة ، وبرّ الوالدين ، وترك الحسد والعجب والفخر .
يا هشام أصلحُ أيامِك الذي هو أمامك ، فانظر أيَّ يوم هو ، وأعدَّ له الجواب ، فإنك موقوف ومسؤول ، وخذ موعظتك من الدهر وأهله ، فإن الدَّهر طويله قصير وقصيره طويل ، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك ، واعقل عن الله وانظر في تصرف الدهر وأحواله ، فإنَّ ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها ، فاعتبر بها .
وقال علي بن الحسين (عليهما السلام) :
«إن جميع ما طلعت عليه الشمس ، في مشارق الأرض ومغاربها ، بحرها وبرّها ، وسهلها وجبلها ، عند وليّ من أولياء الله ، وأهل المعرفة بحقّ الله كفيء الظلال -
ثم قال (عليه السلام) : أولا حر يدع [هذه] اللماظة لأهلها - يعني الدنيا - فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة ، فلا تبيعوها بغيرها ، فإنه من رضي من الله بالدنيا ، فقد رضي بالخسيس» .
یا هشام إن كل الناس يبصر النجوم ، ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها ، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ، ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها .
يا هشام إن المسيح (عليه السلام) قال للحواريين :
«يا عبيد السوء يهولكم طول النخلة ، وتذكرون شوكها ، ومؤونة مراقيها ، وتنسون طيب ثمرها ومرافقها ، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة ، فيطول عليكم أمده ، وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ، ونورها وثمرها .
يا عبيد السوء نقّوا القمح ، وطيّبوه وأدقّوا طحنه ، تجدوا طعمه ، ويَهْنِئْكم أكله ، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه ، تجدوا حلاوته ، وينفعكم غبّه ، بحق أقول لكم ، لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة ، لاستضأتم به ، ولم يمنعكم منه ريح نتنه ، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها .
يا عبيد الدنيا بحق أقول لكم : لا تدركون شرف الآخرة ، إلا بترك ما تحبون ، فلا تُنْظِروا بالتوبة غداً ، فإن دون غد يوماً وليلة ، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح .
بحق أقول لكم : إن من ليس عليه دَيْن من الناس ، أروح وأقل همّاً ممّن عليه الدَّيْن ، وإن أحسن القضاء ، وكذلك من لم يعمل الخطيئة ، أروح همّاً ممّن عمل الخطيئة ، وإن أخلص التوبة وأناب ، وإن صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس ، يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم ، فتجتمع وتكثر فتحيط بكم .
بحق أقول لكم : إن الناس في الحكمة رجلان : فرجل أتقنها بقوله ، وصدَّقها بفعله ، ورجل أتقنها بقوله ، وضيعها بسوء فعله ، فشتان بينهما ، فطوبى للعلماء بالفعل ، وويل للعلماء بالقول .
يا عبيد السوء اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم ، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات ، إن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا ، وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا .
يا عبيد السوء لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة ، ولا بالثعالب الخادعة ، ولا بالذئاب الغادرة ، ولا بالأُسد العاتية ، كما تفعل بالفراس ، كذلك تفعلون بالناس ، فريقاً تخطفون ، وفريقاً تخدعون ، وفريقاً تغدرون بهم .
بحق أقول لكم : لا يغني عن الجسد ، أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً ، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم ، وقد فسدت قلوبكم ، وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم دنسة.
لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ، ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ، ويبقى الغلّ(۱) في صدوركم .
يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ، ويحرق نفسه .
يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ، ولو جُثُوّاً على الرُكَب ، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر .
يا هشام مكتوب في الإنجيل «طوبى للمتراحمين ، أولئك هم المرحومون يوم القيامة ، طوبى للمصلحين بين الناس ، أولئك هم المقربون يوم القيامة ، طوبى للمطهرة قلوبهم ، أولئك هم المتقون يوم القيامة ، طوبى للمتواضعين في الدنيا ، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة» .
یا هشام قلة المنطق حكم عظيم ، فعليكم بالصمت ، فإنه دَعَة حسنة ، وقلّة وِزْر ، وخفّة من الذنوب .
فحصنوا باب الحلم ، فإن بابه الصبر ، وإنَّ الله عزّ وجلّ يبغض الضحّاك من غير عُجْب ، والمشّاء إلى غير أرب(٢) ، ويجب على الوالي أن يكون كالراعي ، لا يغفل عن رعيته ، ولا يتكبر عليهم ، فاستحيوا من الله في سرائركم ، كما تستحيون من الناس في علانيتكم ، واعلموا أن الكلمة من الحكمة ضالّة المؤمن ، فعليكم بالعلم قبل أن يرفع ، ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم .
يا هشام تعلَّم من العلم ما جهلت ، وعلّم الجاهل مما علمت ، عظّم العالم لعلمه ودع منازعته ، وصغّر الجاهل لجهله ، ولا تطرده ، ولكن قرِّبه وعلِّمه .
یا هشام إن كل نعمة عجزت عن شكرها ، بمنزلة سيئة تؤاخذ بها ، وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه :
«إن لله عباداً كسرت قلوبهم خشية ، فأسكتتهم عن المنطق ، وإنهم لفصحاء عقلاء ، يستبقون إلى الله بالأعمال الزكية ، لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون لهم من أنفسهم بالقليل ، يرون في أنفسهم أنهم أشرار ، وإنهم لأكياس وأبرار».
یا هشام الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار .
يا هشام المتكلمون ثلاثة : فرابح وسالم وشاجب ، فأما الرابح فالذاكر لله ، وأما السالم فالساكت ، وأما الشاجب فالذي يخوض في الباطل ، إنَّ الله حرَّم الجنة على كل فاحش بذيء ، قليل الحياء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه ، وكان أبو ذر (رضي الله عنه) يقول :
«يا مبتغي العلم!! إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر ، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك» .
يا هشام بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين ، يطري أخاه إذا شاهده ، ويأكله إذا غاب عنه ، إن أُعطي حسده وإن ابتلي خذله .
إنَّ أسرع الخير ثواباً البر ، وأسرع الشر عقوبة البغي ، وإنَّ شر عباد الله ، من تُكرَه مجالسته لفحشه ، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم .
ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
يا هشام لا يكون الرجل مؤمناً ، حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً ، حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو .
يا هشام قال الله عزّ وجلّ : وعزّتي وجلالي وعظمتي ، وقدرتي وبهائي وعلوّي في مكاني ، لا يؤثر عبد هواي على هواه ، إلا جعلت الغنى في نفسه ، وهمَّه في آخرته ، وكففت [عليه] ضيعته ، وضمَّنت السماوات والأرض رزقه ، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر .
يا هشام الغضب مفتاح الشر . وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقا ، وإن خالطت الناس ، فإن استطعت أن لا تخالط أحداً منهم إلا من كانت يدك عليه العليا فافعل .
يا هشام عليك بالرفق ، فإن الرفق يُمْن ، والخرق شؤم ، إن الرفق والبر وحسن الخلق يعمر الديار ، ويزيد في الرزق .
يا هشام قول الله : {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (١) جرت في المؤمن والكافر ، والبَرّ والفاجر ، من صُنِع إليه معروف فعليه أن يكافئ به ، وليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتى ترى فضلك(٢)، فإن صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء .
يا هشام إن مَثَل الدنيا مثل الحية ، مسُّها ليِّن وفي جوفها السمّ القاتل ، يحذرها الرجال ذوو العقول ، ويهوي إليها الصبيان بأيديهم .
يا هشام اصبر على طاعة الله ، واصبر عن معاصي الله ، فإنما الدنيا ساعة ، فما مضى منها فليس تجد له سروراً ولا حزناً ، وما لم يأتِ منها فليس تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها ، فكأنك قد اغتبطت .
يا هشام مَثَل الدنيا مَثَل ماء البحر ، كلما شرب منه العطشان ، ازداد عطشاً حتى يقتله .
یا هشام إياك والكِبْر ، فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كِبْر ، الكبر رداء الله ، فمن نازعه رداءه ، أكبّه الله في النار على وجهه .
يا هشام ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسناً استزاد منه ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه .
يا هشام تمثلت الدنيا للمسيح (عليه السلام) في صورة امرأة زرقاء ، فقال لها : كم تزوجت فقالت : كثيراً ، قال : فكل طلقك ؟ قالت : لا بل كلاً قتلت ، قال المسيح (عليه السلام) : فويح لأزواجك الباقين ، كيف لا يعتبرون بالماضين!
يا هشام إنَّ ضوء الجسد في عينه ، فإن كان البصر مضيئاً استضاء الجسد كله ، وإنَّ ضوء الروح العقل ، فإذا كان العبد عاقلاً ، كان عالماً بربّه ، وإذا كان عالماً بربّه أبصر دينه ، وإن كان جاهلاً بربّه لم يقم له دين ، وكما لا يقوم الجسد إلا بالنفس الحية ، فكذلك لا يقوم الدين إلا بالنية الصادقة ، ولا تثبت النية الصادقة إلا بالعقل .
يا هشام إن الزرع ينبت في السهل ، ولا ينبت في الصفا(١) ، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ، ولا تعمر في قلب المتكبر الجبار ، لأنَّ الله جعل التواضع آلة العقل ، وجعل التكبر من آلة الجهل ، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجَّه ، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنًَه ، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله ، ومن تواضع لله رفعه .
يا هشام ما أقبح الفقر بعد الغنى! وأقبح الخطيئة بعد النسك! وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته!
يا هشام لا خير في العيش إلا لرجلين : لمستمع واعٍ ، وعالم ناطق .
يا هشام ما قسم بين العباد أفضل من العقل . نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل . ما بعث الله نبيّاً إلا عاقلاً ، حتى يكون عقله أفضل من جميع جهد المجتهدين ، وما أدى العبد فريضة من فرائض الله حتى عقل عنه .
يا هشام قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه ، فإنه يلقَّى الحكمة(١) . والمؤمن قليل الكلام ، كثير العمل ، والمنافق كثير الكلام ، قليل العمل» .
يا هشام أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) «قل لعبادي : لا تجعلوا بيني وبينهم عالِماً مفتوناً بالدنيا ، فيصدَّهم عن ذكري ، وعن طريق محبتي ومناجاتي ، أولئك قطَّاع الطريق من عبادي ، إنَّ أدنى ما أنا صانع بهم ، أن أنزع حلاوة محبتي ومناجاتي من قلوبهم .
يا هشام من تعظّم في نفسه ، لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض ، ومن تكبر على إخوانه واستطال عليهم(۲) ، فقد ضادَّ الله ، ومن ادعى ما ليس له ، فهو أعنى لغير رشده .
يا هشام أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) «يا داود حذّر ، وأنذر أصحابك عن حب الشهوات ، فإن المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا ، قلوبهم محجوبة عني» .
يا هشام إياك والكبر على أوليائي ، والاستطالة بعلمك فيمقتك الله ، فلا تنفعك بعد مقته ، دنياك ولا آخرتك . وكن في الدنيا كساكن دار ليست له، إنما ينتظر الرحيل .
يا هشام مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة ، ومشاورة العاقل الناصح يُمْن وبركة ، ورشد وتوفيق من الله ، فإذا أشار عليك العاقل الناصح ، فإياك والخلاف ، فإن في ذلك العطب .
يا هشام إياك ومخالطة الناس والأُنس بهم ، إلا أن تجد منهم عاقلاً ومأموناً ، فأُنَسْ به ، واهرب من سائرهم ، كهربك من السباع الضارية ، وينبغي للعاقل إذا عمل عملاً أن يستحيي من الله ، وإذا تفرد له بالنعم أن يشارك في عمله أحداً غيره ، وإذا مرَّ بك أمران لا تدري أيهما خير وأصوب ، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه ، فإن كثير الصواب في مخالفة هواك ، وإياك أن تغلب الحكمة وتضعها في الجهالة .
قال هشام : فقلت له : فإن وجدت رجلاً طالباً له ، غير أن عقله لا يتسع لضبط ما أُلقي إليه ؟
قال (عليه السلام) : فتلطف له في النصيحة ، فإن ضاق قلبه [ف] لا تعرِّضن نفسك للفتنة ، واحذر رد المتكبرين ، فإن العلم يذل على أن يملى على من لا يفيق ،
قلت : فإن لم أجد من يعقل السؤال عنها ،
قال (عليه السلام) : فاغتنم جهله عن السؤال حتى تسلم من فتنة القول ، وعظيم فتنة الرد.
واعلم أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده ، ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ، ولكن آمنهم بقدر کرمه وجوده ، ولم يفرِّح المحزونين بقدر حزنهم ولكن بقدر رأفته ورحمته ، فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه ، فكيف بمن يؤذى فيه ، وما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه ، فكيف بمن يترضاه ويختار عداوة الخلق فيه .
يا هشام من أحب الدنيا ، ذهب خوف الآخرة من قلبه ، وما أُوتي عبد علماً فازداد للدنيا حباً إلا ازداد من الله بعداً ، وازداد الله عليه غضباً .
يا هشام إن العاقل اللبيب ، من ترك ما لا طاقة له به ، وأكثر الصواب في خلاف الهوى ، ومن طال أمله ساء عمله .
يا هشام لو رأيت مسير الأجل ، لألهاك عن الأمل .
يا هشام إياك والطمع ، وعليك باليأس مما في أيدي الناس ، وأمت الطمع من المخلوقين ، فإن الطمع مفتاح الذلّ ، واختلاس العقل ، واختلاق المروات ، وتدنيس العرض ، والذهاب بالعلم ، وعليك بالاعتصام بربّك والتوكل عليه ، وجاهد نفسك لتردَّها عن هواها ، فإنه واجب عليك كجهاد عدوك .
قال هشام : فقلت له : فأيُّ الأعداء أوجبهم مجاهدة؟
قال (عليه السلام) : أقربهم إليك ، وأعداهم لك ، وأضرُّهم بك ، وأعظمهم لك عداوة ، وأخفاهم لك شخصاً ، مع دنوِّه منك ، ومن يحرِّض أعداءك عليك ، وهو إبليس الموكل بوسواس [من] القلوب ، فله فلتشتدَّ عداوتك ، ولا يكوننَّ أصبر على مجاهدتك لهلكتك ، منك على صبرك لمجاهدته(١) ، فإنه أضعف منك ركناً في قوّته ، وأقلُّ منك ضرراً في كثرة شرّه ، إذا أنت اعتصمت بالله فقد هديت إلى صراط مستقيم .
يا هشام من أكرمه الله بثلاث فقد لطف به : عقل يكفيه مؤونة هواه ، وعلم يكفيه مؤونة جهله ، وغنىً يكفيه مخافة الفقر .
يا هشام احذر هذه الدنيا واحذر أهلها ، فإن الناس فيها على أربعة أصناف : رجل متردّي معانق لهواه ، ومتعلم متقرّي كلما ازداد علماً ازداد كبراً ، يستعلي بقراءته وعلمه على من هو دونه ، وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته ، يحب أن يعظَّم ويوقَّر ، وذو بصيرة عالم عارف بطريق الحق يحب القيام به ، فهو عاجز أو مغلوب ولا يقدر على القيام بما يعرف فهو محزون مغموم بذلك ، فهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلاً .
یا هشام اعرف العقل وجنده ، والجهل وجنده ، تكن من المهتدين ،
قال هشام : فقلت جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرَّفتنا .
فقال (عليه السلام) : يا هشام إنَّ الله خلق العقل ، وهو أول خلق خلقه الله من الروحانيين ، عن يمين العرش من نوره،
فقال له : أدبر فأدبر .
ثم قال له : أقبل فأقبل .
فقال الله عزّ وجلّ : خلقتك خلقاً [عظيماً] وكرَّمتك على جميع خلقي ، ثم خلق الجهل من البحر الأُجاج الظلماني ،
فقال له : أدبر فأدبر،
ثم قال له : أقبل ، فلم يقبل .
فقال له : استكبرت ! فلعنه .
ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً ، فلما رأى الجهل ما كرَّم الله به العقل وما أعطاه ، أضمر له العداوة ،
فقال الجهل : يا ربّ هذا خلق مثلي خلقته وكرَّمته وقوَّيته ، وأنا ضده ولا قوة لي به ، أعطني من الجند مثل ما أعطيته .
فقال تبارك وتعالى : نعم ، فإنْ عصيتني بعد ذلك أخرجتك وجندك من جواري ومن رحمتي .
فقال : قد رضيت ، فأعطاه الله خمسة وسبعين جنداً .
فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين جنداً : الخير، وهو وزير العقل . وجعل ضده الشر ، وهو وزير الجهل . والإيمان وضده الكفر . التصديق ، التكذيب . الإخلاص ، النفاق. الرجاء ، القنوط . العدل ، الجور. الرضى ، السخط . الشكر ، الكفران . اليأس ، الطمع . التوكل ، الحرص . الرأفة ، الغلظة . العلم ، الجهل . العفة ، التهتك . الزهد ، الرغبة . الرفق ، الخرق . الرهبة ، الجرأة . التواضع ، الكبر . التؤدة ، العجلة . الحلم ، السفه . الصمت ، الهذر. الاستسلام ، الاستكبار . التسليم ، التجبر . العفو ، الحقد . الرحمة ، القسوة . اليقين ، الشك . الصبر ، الجزع . الصفح ، الانتقام . الغنى ، الفقر . التفكر ، السهو . الحفظ ، النسيان . التواصل ، القطيعة . القناعة ، الشره . المؤاساة ، المنع . المودة ، العداوة . الوفاء ، الغدر . الطاعة ، المعصية . الخضوع ، التطاول . السلامة ، البلاء . الفهم ، الغباوة . المعرفة ، الإنكار . المداراة ، المكاشفة . سلامة الغيب ، المماكرة . الكتمان ، الإفشاء . البر ، العقوق . الحقيقة ، التسويف . المعروف ، المنكر . التقية ، الإذاعة . الإنصاف ، الظلم . التقى ، الحسد . النظافة ، القذر . الحياء ، القحّة . القصد ، الإسراف . الراحة ، التعب . السهولة ، الصعوبة . العافية ، البلوى . القوام ، المكاثرة . الحكمة ، الهوى . الوقار ، الخفة . السعادة ، الشقاء . التوبة ، الإصرار . المحافظة ، التهاون . الدعاء ، الاستنكاف . النشاط ، الكسل . الفرح ، الحزن . الإلفة ، الفرقة . السخاء ، البخل . الخشوع ، العُجْب . صون الحديث ، النميمة [كلّها من أجناد العقل ](١) الاستغفار، الاغترار . الكياسة ، الحمق .
يا هشام لا تجمع هذه الخصال إلا لنبيّ أو وصيّ أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ، وأما سائر ذلك من المؤمنين (۲) ، فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود من أجناد العقل ، ويتخلص من جنود الجهل ، فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ، [وإنما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده ، وبمجانبة الجهل وجنوده] (۳) . وفقنا الله وإياكم لطاعته (٤) .