وذكر المؤرخون أن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ، من ضحايا هارون الرشيد حبسه وضربه مئات الجلدات ، ووضعه في أُسطوانة وهو حي حتى مات ، وفي رواية أُخرى قتله سماً في حبسه ، كما روي أن يحيى بن عبد الله بن الحسن لما قتل أصحاب فخ ، كان في قبلهم ، فاستتر مدة يجول في البلدان ، ويطلب موضعاً يلجأ إليه ، وعلم الفضل بن يحيى بمكانه في بعض النواحي ، فأمره بالانتقال عنه ، وقصد الديلم ، وكتب له منشوراً لا يعرض له أحد ، فمضى متنكراً حتى ورد الديلم .
وبلغ الرشيد خبره وهو في بعض الطريق ، فولى الفضل بن يحيى نواحي المشرق ، وأمره بالخروج إلى يحيى ، فلما علم الفضل بمكان يحيى ، كتب إليه :
إني أُريد أن أُحدث بك عهداً ، وأخشى أن تبتلى بي وأُبتلى بك ، فكاتب صاحب الديلم فإني قد كاتبته لك لتدخل إلى بلاده فتمتنع به .
ففعل ذلك يحيى ، وكان صحبه جماعة من أهل الكوفة ، وولى الرشيد الفضل جميع كور المشرق وخراسان ، وأمره بقصد يحيى والخديعة به ، وبذل الأموال والصلة له إن قَبِل ذلك .
فمضى الفضل في من ندب معه ، وراسل يحيى فأجابه إلى قبوله ، لما رأى من تفرق أصحابه وسوء رأيهم فيه ، وكثرة خلافهم عليه ، إلا أنه لم يَرض الشرائط التي شرطت له ، ولا الشهود الذين شهدوا له ، وبعث الكتاب إلى الفضل ، فبعث به إلى الرشيد ، فكتب له على ما أراد وشهد له من التمس .
فلما ورد كتاب الرشيد على الفضل ، وقد كتب الأمان على ما رسم يحيى ، وأشهد الشهود الذين التمسهم ، وجعل الأمان على نسختين :
إحداهما مع يحيى والأُخرى معه شخص يحيى مع الفضل حتى وافى بغداد ، ودخلها معادله في عمارية على بغل ، فلما قدم يحيى أجازه الرشيد بجوائز سنية ، يقال إن مبلغها مائتا ألف دينار ، وغير ذلك من الخلع والحملان ، فأقام على ذلك مدة ، وفي نفسه الحيلة على يحيى ، والتتبع له، وطلب العلل عليه وعلى أصحابه .
ثم إن نفراً من أهل الحجاز تحالفوا على السعاية بيحيى ، وهم : عبد الله بن مصعب الزبيري ، وأبو البختري وهب بن وهب ، ورجل من بني زهرة ، ورجل من بني مخزوم ، فوافوا الرشيد لذلك ، واحتالوا إلى أن أمكنهم ذكره له ، وأشخصه الرشيد إليه وحبسه عند مسرور الكبير في سرداب ، فكان في أكثر الأيام يدعوه ويناظره ، إلى أن مات في حبسه .
واختلف الناس كيف كانت وفاته ، فقيل ، إنه دعاه يوماً وجمع بينه وبين ابن مصعب ليناظره في ما رفع إليه ، فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد ، وقال :
إن هذا دعاني إلى بيعته .
فقال يحيى : يا أمير المؤمنين أتصدق هذا عليّ وتستنصحه ؟ وهو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك وولده الشعب ، وأضرم عليهم النار ، حتى تخلصهم أبو عبد الله الجدلي صاحب علي (عليه السلام) ، وهو الذي بقي أربعين يوماً لا يصلي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته حتى التاث عليه الناس ،
فقال : إن له أهل بيت سوء إذا ذكرته اشرأبت نفوسهم إليه ، وفرحوا بذلك ، فلا أُحب أن أُقر أعينهم بذلك ، وهو الذي فعل بعبد الله بن العباس ما لا خفاء به عليك ، وطال الكلام بينهما حتى قال يحيى :
ومع ذلك هو الخارج مع أخي على أبيك ، وقال في ذلك أبياتا منها :
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا
إن الخلافة فيكم يا بني حسن
قال : فتغير وجه الرشيد عند سماع الأبيات ، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ، وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له .
فقال يحيى : والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره ، وما حلفت بالله كاذباً ولا صادقاً قبل هذا ، وإن الله إذا مجده العبد في يمينه استحيا أن يعاقبه ، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذباً إلا عوجل ،
قال: حلِّفه
قال : قل : برئت من حول الله وقوته ، واعتصمت بحولي وقوتي ، وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكباراً على الله واستغناء عنه ، واستعلاء عليه إن كنت قلت هذا الشعر .
فامتنع عبد الله منه فغضب الرشيد ،
وقال للفضل بن الربيع : هنا شيء ، ما له لا يحلف إن كان صادقاً؟ فرفس الفضل عبد الله برجله وصاح به احلف ويحك ، وكان له فيه هوى فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرعد ،
فضرب يحيى بين كتفيه ثم قال : يابن مصعب قطعت والله عمرك ، والله لا تفلح بعدها ، فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام ، فتقطع ومات في اليوم الثالث ، فحضر الفضل جنازته ومشى معها ومشى الناس معه ، فلما وضعوه في لحده ، وجعلوا اللبن فوقه ، انخسف القبر به ، وخرجت منه غبرة عظيمة .
فصاح الفضل : التراب التراب ، فجعل يطرح وهو يهوي ، فدعا بأحمال شوك وطرحها فهوت ، فأمر حينئذ بالقبر ، فسقف بخشب وأصلحه ، وانصرف منكسراً .
فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل : رأيت يا عباسي ما أسرع ما أُديل يحيى من ابن مصعب؟! ثم جمع له الرشيد الفقهاء وفيهم محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف ، والحسن بن زياد اللؤلئيّ وأبو البختري ، فجمعوا في مجلس ، فخرج إليهم مسرور الكبير بالأمان ، فبدأ بمحمد بن الحسن فنظر فيه ،
فقال : هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه ، فصاح عليه مسرور هاته ، فدفعه إلى الحسن بن زياد ، فقال بصوت ضعيف : هو أمان ، فاستلبه أبو البختري ، وقال : هذا باطل منتقض ، قد شق العصا ، وسفك الدم، فاقتله ودمه في عنقي .
فدخل مسرور إلى الرشيد وأخبره ، فقال : اذهب وقل له : خرّقه إن كان باطلاً بيدك ، فجاء مسرور فقال له ذلك ،
فقال : شقه أبا هاشم قال له مسرور : بل شقه أنت إن كان منتقضاً فأخذ سكيناً وجعل يشقه ويده ترتعد حتى صيره سيوراً ، فأدخله مسرور على الرشيد ، فوثب فأخذه من يده وهو فرح ، ووهب لأبي البختري ألف ألف وستمائة ألف ، وولاه قضاء القضاة ، وصرف الآخرين ، ومنع محمد ابن الحسن من الفتيا مدة طويلة ، وأجمع على إنفاذ ما أراد في يحيى .
فروي عن رجل كان مع يحيى في المطبق قال : كنت منه قريباً ، فكان في أضيق البيوت وأظلمها ، فبينا نحن ذات ليلة كذلك ، إذ سمعنا صوت الأقفال ، وقد مضى من الليل هجعة ، فإذا هارون قد أقبل على برذون له فوقف ، ثم قال :
أين هذا ؟ يعني يحيى
قالوا : في هذا البيت
قال : عليّ به فأدني إليه فجعل هارون يكلمه بشيء لم أفهمه ،
فقال : خذوه ، فأُخذ فضربه مائة عصاً ، ويحيى يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول :
بقرابتي منك ،
فيقول : ما بيني وبينك قرابة .
ثم حمل فرد إلى موضعه فقال : كم أجريتم عليه ؟
قالوا : أربعة أرغفة وثمانية أرطال ماء ،
قال : اجعلوه على النصف ، ثم خرج ومكث ليالي ثم سمعنا وقعاً ، فإذا نحن به حتى دخل ،
فوقف موقفه فقال : عليّ به فأُخرج ففعل به مثل فعله ذلك ، وضربه مائة عصا أُخرى ، ويحيى يناشده
فقال : كم أجريتم عليه؟
قالوا : رغيفين وأربعة أرطال ماء
قال : اجعلوه على النصف ، ثم خرج وعاود الثالثة ، وقد مرض يحيى وثقل .
فلما دخل ، قال : عليّ به
قالوا : هو عليل مدنف لما به ،
قال : كم أجريتم عليه؟
قالوا : رغيفاً ورطلين ماء ،
قال : اجعلوه على النصف ثم خرج ، فلم يلبث يحيى أن مات فأُخرج إلى الناس فدفن .
وعن إبراهيم بن رياح أنه بنى عليه أسطوانة بالرافقة وهو حي ، وعن علي بن محمد بن سليمان أنه دس إليه في الليل من خنقه حتى تلف ، قال : وبلغني أنه سقاه سماً ، وعن محمد بن أبي الحسناء أنه أجاع السباع ثم ألقاه إليها فأكلته .
وعن عبد الله بن عمر العمري قال : دعينا لمناظرة يحيى بن عبد الله بحضرة الرشيد ، فجعل يقول له : يا يحيى اتقِ الله وعرِّفني أصحابك السبعين لئلا ينتقض أمانك ! وأقبل علينا فقال :
إن هذا لم يسمِّ أصحابه ، فكلما أردت أخذ إنسان يبلغني عنه شيء أكرهه ، ذكر أنه ممن أمَّنت .
فقال يحيى : يا أمير المؤمنين أنا رجل من السبعين ، فما الذي نفعني من الأمان؟ أفتريد أن أدفع إليك قوماً تقتلهم معي لا يحل لي هذا ،
قال : ثم خرجنا ذلك اليوم ، ودعانا له يوماً آخر ، فرأيته أصفر الوجه متغيراً ، فجعل الرشيد يكلمه فلا يجيبه فقال :
ألا ترون إليه لا يجيبني !؟ فأخرج إلينا لسانه قد صار أسود مثل الحممة ، يرينا أنه لا يقدر على الكلام فاستشاط الرشيد ، وقال :
إنه يريكم أني سقيته السم ، ووالله لو رأيت عليه القتل لضربت عنقه صبراً ، ثم خرجنا من عنده ، فما صرنا في وسط الدار حتى سقط على وجهه لآخر ما به .
وعن إدريس بن محمد بن يحيى كان يقول :
قتل جدي بالجوع والعطش في الحبس ، وعن الزبير بن بكار عن عمه ، أن يحيى لما أخذ من الرشيد المأتي الألف الدينار، قضى بها دين الحسين صاحب فخ ، وكان الحسين خلف مأتي ألف دينار ديناً ، وقال :
خرج مع يحيى عامر بن كثير السراج ، وسهل بن عامر البجلي ، ويحيى بن عبد الله بن يحيى بن مساور ، وكان من أصحابه علي بن هاشم بن البريد ، وعبد الله بن علقمة ، ومخول بن إبراهيم النهدي ، فحبسهم جميعاً هارون في المطبق فمكثوا فيه اثنتي عشرة سنة (١) .
هكذا كانت سيرة بني العباس في القتل والتشريد ، وإدخال الرعب إلى قلوب الناس ، وبالخصوص ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .