مقتل يحيى بن عبد الله ابن الإمام الحسن (عليه السلام)

مقتل يحيى بن عبد الله ابن الإمام الحسن (عليه السلام) 

وذكر المؤرخون أن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ، من ضحايا هارون الرشيد حبسه وضربه مئات الجلدات ، ووضعه في أُسطوانة وهو حي حتى مات ، وفي رواية أُخرى قتله سماً في حبسه ، كما روي أن يحيى بن عبد الله بن الحسن لما قتل أصحاب فخ ، كان في قبلهم ، فاستتر مدة يجول في البلدان ، ويطلب موضعاً يلجأ إليه ، وعلم الفضل بن يحيى بمكانه في بعض النواحي ، فأمره بالانتقال عنه ، وقصد الديلم ، وكتب له منشوراً لا يعرض له أحد ، فمضى متنكراً حتى ورد الديلم .


وبلغ الرشيد خبره وهو في بعض الطريق ، فولى الفضل بن يحيى نواحي المشرق ، وأمره بالخروج إلى يحيى ، فلما علم الفضل بمكان يحيى ، كتب إليه : 

إني أُريد أن أُحدث بك عهداً ، وأخشى أن تبتلى بي وأُبتلى بك ، فكاتب صاحب الديلم فإني قد كاتبته لك لتدخل إلى بلاده فتمتنع به . 

ففعل ذلك يحيى ، وكان صحبه جماعة من أهل الكوفة ، وولى الرشيد الفضل جميع كور المشرق وخراسان ، وأمره بقصد يحيى والخديعة به ، وبذل الأموال والصلة له إن قَبِل ذلك .


فمضى الفضل في من ندب معه ، وراسل يحيى فأجابه إلى قبوله ، لما رأى من تفرق أصحابه وسوء رأيهم فيه ، وكثرة خلافهم عليه ، إلا أنه لم يَرض الشرائط التي شرطت له ، ولا الشهود الذين شهدوا له ، وبعث الكتاب إلى الفضل ، فبعث به إلى الرشيد ، فكتب له على ما أراد وشهد له من التمس .


فلما ورد كتاب الرشيد على الفضل ، وقد كتب الأمان على ما رسم يحيى ، وأشهد الشهود الذين التمسهم ، وجعل الأمان على نسختين : 

إحداهما مع يحيى والأُخرى معه شخص يحيى مع الفضل حتى وافى بغداد ، ودخلها معادله في عمارية على بغل ، فلما قدم يحيى أجازه الرشيد بجوائز سنية ، يقال إن مبلغها مائتا ألف دينار ، وغير ذلك من الخلع والحملان ، فأقام على ذلك مدة ، وفي نفسه الحيلة على يحيى ، والتتبع له، وطلب العلل عليه وعلى أصحابه .


ثم إن نفراً من أهل الحجاز تحالفوا على السعاية بيحيى ، وهم : عبد الله بن مصعب الزبيري ، وأبو البختري وهب بن وهب ، ورجل من بني زهرة ، ورجل من بني مخزوم ، فوافوا الرشيد لذلك ، واحتالوا إلى أن أمكنهم ذكره له ، وأشخصه الرشيد إليه وحبسه عند مسرور الكبير في سرداب ، فكان في أكثر الأيام يدعوه ويناظره ، إلى أن مات في حبسه . 


واختلف الناس كيف كانت وفاته ، فقيل ، إنه دعاه يوماً وجمع بينه وبين ابن مصعب ليناظره في ما رفع إليه ، فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد ، وقال : 

إن هذا دعاني إلى بيعته . 

فقال يحيى : يا أمير المؤمنين أتصدق هذا عليّ وتستنصحه ؟ وهو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك وولده الشعب ، وأضرم عليهم النار ، حتى تخلصهم أبو عبد الله الجدلي صاحب علي (عليه السلام) ، وهو الذي بقي أربعين يوماً لا يصلي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته حتى التاث عليه الناس ، 

فقال : إن له أهل بيت سوء إذا ذكرته اشرأبت نفوسهم إليه ، وفرحوا بذلك ، فلا أُحب أن أُقر أعينهم بذلك ، وهو الذي فعل بعبد الله بن العباس ما لا خفاء به عليك ، وطال الكلام بينهما حتى قال يحيى : 

ومع ذلك هو الخارج مع أخي على أبيك ، وقال في ذلك أبياتا منها :


قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا 

إن الخلافة فيكم يا بني حسن 


قال : فتغير وجه الرشيد عند سماع الأبيات ، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ، وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له . 

فقال يحيى : والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره ، وما حلفت بالله كاذباً ولا صادقاً قبل هذا ، وإن الله إذا مجده العبد في يمينه استحيا أن يعاقبه ، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذباً إلا عوجل ، 

قال: حلِّفه 

قال : قل : برئت من حول الله وقوته ، واعتصمت بحولي وقوتي ، وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكباراً على الله واستغناء عنه ، واستعلاء عليه إن كنت قلت هذا الشعر . 

فامتنع عبد الله منه فغضب الرشيد ، 

وقال للفضل بن الربيع : هنا شيء ، ما له لا يحلف إن كان صادقاً؟ فرفس الفضل عبد الله برجله وصاح به احلف ويحك ، وكان له فيه هوى فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرعد ، 

فضرب يحيى بين كتفيه ثم قال : يابن مصعب قطعت والله عمرك ، والله لا تفلح بعدها ، فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام ، فتقطع ومات في اليوم الثالث ، فحضر الفضل جنازته ومشى معها ومشى الناس معه ، فلما وضعوه في لحده ، وجعلوا اللبن فوقه ، انخسف القبر به ، وخرجت منه غبرة عظيمة . 


فصاح الفضل : التراب التراب ، فجعل يطرح وهو يهوي ، فدعا بأحمال شوك وطرحها فهوت ، فأمر حينئذ بالقبر ، فسقف بخشب وأصلحه ، وانصرف منكسراً .


فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل : رأيت يا عباسي ما أسرع ما أُديل يحيى من ابن مصعب؟! ثم جمع له الرشيد الفقهاء وفيهم محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف ، والحسن بن زياد اللؤلئيّ وأبو البختري ، فجمعوا في مجلس ، فخرج إليهم مسرور الكبير بالأمان ، فبدأ بمحمد بن الحسن فنظر فيه ، 

فقال : هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه ، فصاح عليه مسرور هاته ، فدفعه إلى الحسن بن زياد ، فقال بصوت ضعيف : هو أمان ، فاستلبه أبو البختري ، وقال : هذا باطل منتقض ، قد شق العصا ، وسفك الدم، فاقتله ودمه في عنقي . 

فدخل مسرور إلى الرشيد وأخبره ، فقال : اذهب وقل له : خرّقه إن كان باطلاً بيدك ، فجاء مسرور فقال له ذلك ، 

فقال : شقه أبا هاشم قال له مسرور : بل شقه أنت إن كان منتقضاً فأخذ سكيناً وجعل يشقه ويده ترتعد حتى صيره سيوراً ، فأدخله مسرور على الرشيد ، فوثب فأخذه من يده وهو فرح ، ووهب لأبي البختري ألف ألف وستمائة ألف ، وولاه قضاء القضاة ، وصرف الآخرين ، ومنع محمد ابن الحسن من الفتيا مدة طويلة ، وأجمع على إنفاذ ما أراد في يحيى .


فروي عن رجل كان مع يحيى في المطبق قال : كنت منه قريباً ، فكان في أضيق البيوت وأظلمها ، فبينا نحن ذات ليلة كذلك ، إذ سمعنا صوت الأقفال ، وقد مضى من الليل هجعة ، فإذا هارون قد أقبل على برذون له فوقف ، ثم قال : 

أين هذا ؟ يعني يحيى 

قالوا : في هذا البيت 

قال : عليّ به فأدني إليه فجعل هارون يكلمه بشيء لم أفهمه ، 

فقال : خذوه ، فأُخذ فضربه مائة عصاً ، ويحيى يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول : 

بقرابتي منك ، 

فيقول : ما بيني وبينك قرابة . 

ثم حمل فرد إلى موضعه فقال : كم أجريتم عليه ؟ 

قالوا : أربعة أرغفة وثمانية أرطال ماء ،

قال : اجعلوه على النصف ، ثم خرج ومكث ليالي ثم سمعنا وقعاً ، فإذا نحن به حتى دخل ، 

فوقف موقفه فقال : عليّ به فأُخرج ففعل به مثل فعله ذلك ، وضربه مائة عصا أُخرى ، ويحيى يناشده 

فقال : كم أجريتم عليه؟ 

قالوا : رغيفين وأربعة أرطال ماء 

قال : اجعلوه على النصف ، ثم خرج وعاود الثالثة ، وقد مرض يحيى وثقل . 

فلما دخل ، قال : عليّ به 

قالوا : هو عليل مدنف لما به ، 

قال : كم أجريتم عليه؟ 

قالوا : رغيفاً ورطلين ماء ، 

قال : اجعلوه على النصف ثم خرج ، فلم يلبث يحيى أن مات فأُخرج إلى الناس فدفن .


وعن إبراهيم بن رياح أنه بنى عليه أسطوانة بالرافقة وهو حي ، وعن علي بن محمد بن سليمان أنه دس إليه في الليل من خنقه حتى تلف ، قال : وبلغني أنه سقاه سماً ، وعن محمد بن أبي الحسناء أنه أجاع السباع ثم ألقاه إليها فأكلته .


وعن عبد الله بن عمر العمري قال : دعينا لمناظرة يحيى بن عبد الله بحضرة الرشيد ، فجعل يقول له : يا يحيى اتقِ الله وعرِّفني أصحابك السبعين لئلا ينتقض أمانك ! وأقبل علينا فقال : 

إن هذا لم يسمِّ أصحابه ، فكلما أردت أخذ إنسان يبلغني عنه شيء أكرهه ، ذكر أنه ممن أمَّنت .

فقال يحيى : يا أمير المؤمنين أنا رجل من السبعين ، فما الذي نفعني من الأمان؟ أفتريد أن أدفع إليك قوماً تقتلهم معي لا يحل لي هذا ، 

قال : ثم خرجنا ذلك اليوم ، ودعانا له يوماً آخر ، فرأيته أصفر الوجه متغيراً ، فجعل الرشيد يكلمه فلا يجيبه فقال : 

ألا ترون إليه لا يجيبني !؟ فأخرج إلينا لسانه قد صار أسود مثل الحممة ، يرينا أنه لا يقدر على الكلام فاستشاط الرشيد ، وقال : 

إنه يريكم أني سقيته السم ، ووالله لو رأيت عليه القتل لضربت عنقه صبراً ، ثم خرجنا من عنده ، فما صرنا في وسط الدار حتى سقط على وجهه لآخر ما به .


وعن إدريس بن محمد بن يحيى كان يقول : 

قتل جدي بالجوع والعطش في الحبس ، وعن الزبير بن بكار عن عمه ، أن يحيى لما أخذ من الرشيد المأتي الألف الدينار، قضى بها دين الحسين صاحب فخ ، وكان الحسين خلف مأتي ألف دينار ديناً ، وقال : 

خرج مع يحيى عامر بن كثير السراج ، وسهل بن عامر البجلي ، ويحيى بن عبد الله بن يحيى بن مساور ، وكان من أصحابه علي بن هاشم بن البريد ، وعبد الله بن علقمة ، ومخول بن إبراهيم النهدي ، فحبسهم جميعاً هارون في المطبق فمكثوا فيه اثنتي عشرة سنة (١) .


هكذا كانت سيرة بني العباس في القتل والتشريد ، وإدخال الرعب إلى قلوب الناس ، وبالخصوص ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .