ونعم ما قال دعبل الخزاعي (رحمه الله) ، وهذه القصيدة من أروع ما قيل في مصائب أهل البيت (عليه السلام) وذريتهم من أعدائهم ، قال أبو الصلت الهروي :
دخل دعبل بن علي الخزاعي على الرضا (عليه السلام) بمرو فقال له :
يابن رسول الله إني قد قلت فيكم قصيدة وآليت على نفسي أن لا انشدها أحداً قبلك ، فقال الرضا (عليه السلام) علي هاتها فأنشد :
تــجـاوبـن بــالإرنــان والـزفـرات …
نـوائح عــجـم الـلـفـظ والـنـطـقات
يـخـبرن بـالأنـفاس عـن سـر أنـفس …
أسارى هـوى مـاضٍ وآخـر آت
فـأسعدن أو أسـعفن حتى تقوضت …
صفوف الدجى بالفجر منهزمات
عـلى الـعرصات الـخاليات من المها …
سلام شجٍ صبٍّ على العرصات
فـعـهدي بـهـا خـضـر الـمعاهد مـألفاً …
من العطرات البيض والخفرات
لـيـاليَ يـعدين الـوصال عـلى الـقلى …
ويعدي تـدانينا عـلى الـغربات
وإذ هــن يـلحظن الـعيون سـوافراً …
ويسترن بـالأيدي عـلى الـوجنات
وإذ كـل يـوم لـي بـلحظي نـشوة …
يـبيت لـها قـلبي على نشوات
فـكـم حـسرات هـاجها بـمحسِّرٍ …
وقوفي يـوم الـجمع مـن عـرفات
ألـم تـر لـلأيام مـا جـر جورها …
على الناس من نقصٍ وطول شتات
ومـن دول الـمستهترين ومـن غـدا …
بهم طالباً للنور في الظلمات
فـكيف ومـن أنـى يـطالب زلـفة …
إلـى الـلّه بـعد الـصوم والـصلوات
ســوى حـب أبـناء الـنبي ورهـطه …
وبغض بـني الـزرقاء و الـعبلات
وهـند ومـا أدت سـمية وابـنها …
أُولو الكفر في الاسلام والفجرات
هــم نـقضوا عـهد الـكتاب وفـرضه …
ومحكمه بالزور والشبهات
ولــم تــك إلا مـحـنة كـشـفتهم …
بدعوى ضــلال مــن هــنٍ وهـنات
تــراث بــلا قـربـى ومـلـك بـلا هـدى …
وحكم بـلا شـورى بـغير هـداة
رزايــا أرتـنـا خـضـرة الأفــق حـمـرة …
وردت أُجـاجـاً طـعم كـل فـرات
ومــا سـهلت تـلك الـمذاهب فـيهم …
على الـناس إلا بـيعة الـفلتات
ومــا نـال أصـحاب الـسقيفة جهرة …
بـدعوى تـراث بـل بـأمر تـِرات
ولــو قـلـدوا الـمـوصى إلـيـه أمورها …
لَزُمَّتْ بـمـأمونٍ مــن الـعـثرات
أخي خاتم الرسل المصفى من القذى …
ومفترس الأبطال في الغمرات
فــإن جـحـدوا كــان الـغدير شـهيده …
و بـدر وأُحـد شـامخ الـهضبات
وآي مـــن الــقـرآن تـتـلـى بـفـضـله …
وإيثاره بـالـقوت فــي الـلـزبات
وغــــرّ خـــلال أدركــتـه بـسـبـقها …
مناقب كــانـت فــيـه مـؤتـنـفات
مـناقب لـم تـدرك بـكيد ولـم تُـنَلْ …
بشيء سـوى حـد الـقنا الذربات
نـجـيّ لـجـبريل الأمـيـن وأنـتـم …
عكوف عـلـى الـعـزّي مـعـاً ومـنـات
بـكـيت لـرسم الـدار مـن عـرفات …
وأذريت دمـع الـعين بالعبرات
وفـكَّ عـرى صـبري وهـاجت صـبابتي …
رسوم ديـار قـد عـفت وعرات
مــدارس آيــات خـلـت مــن تــلاوة …
ومـنـزل وحـي مـقفر الـعرصات
لآل رســول الـلّـه بـالـخيف مـن مـنى …
وبالبيت والـتعريف والـجمرات
دِيـــار عــلـي والـحـسين وجـعـفر …
وحمزة والـسـجاد ذِي الـثـفنات
ديــار لـعـبد الـلّـه والـفـضل صـنـوه …
نجيِّ رســول الله فـي الـخلوات
وسبطيْ رسول الله وابنَيْ وصيِّه …
ووارث علم الله والحسنات
مـنازل وحـي الـلّه يـنزل بـينها …
على أحـمد الـمذكور فـي الصلوات
مــنــازل قـــوم يـهـتـدى بـهـداهـم …
فيؤمن مـنـهـم زلـــة الـعـثـرات
مــنـازل كــانـت لـلـصـلاة ولـلـتقى …
وللصومِ والـتـطهير والـحـسنات
منازلُ جبريلُ الأمينُ يحلُّها …
من الله بالتسليمِ والرحمات
منازلُ وحيِ الله معدنِ علمه …
سبيلِ رشادٍ واضح الطرقات
منازل لا تيم يحل بربعها …
ولا ابن صهاك فاتك الحرمات
ديـــار عـفـاهـا جـــور كـــل مـنـابـذ …
ولم تــعـفُ لــلأيـام والـسـنوات
فــيـا وارِثـــي عــلـمِ الـنـبـيِّ وآلـه …
عـليكم ســلامٌ دائــمُ الـنـفحات
قـفا نـسألِ الدارَ التي خفَّ أهلها …
متى عهدها بالصوم والصلوات
وأيـن الأُلـى شـطَّت بـهم غـربة الـنوى …
أفانين في الأقطار مفترقات
هــمُ أهـل مـيراث الـنبيِّ إذا اعـتزوا …
وهم خـير سادات وخـير حـماة
إذا لم نناج الله في صلواتنا …
بأسمائهم لم يقبل الصلوات
مـطاعيم فـي الإعسار فـي كـل مشهد …
لقد شرفوا بالفضل والبركات
ومــــا الــنـاس إلا غاصب ومـكـذب …
ومـضطغن ذو إحــنـة وتـــرات
إذا ذكـــروا قـتـلـي بــبـدر وخـيـبـر …
ويوم حـنـيـن أسـلـبـوا الـعـبـرات
فكــيـف يـحـبـون الـنـبيَّ ورهـطـه …
وهم تـركـوا أحـشـاءهم وغــرات
لـقـد لا يـنـوه فــي الـمقال وأضـمروا …
قلوباً عـلى الأحـقاد مـنطويات
فــإن لــم تـكـن إلا بـقـربى مـحمد …
فهاشم أولـى مـن هـنٍ وهـنات
سـقـى الـلّـه قـبراً بـالمدينة غـيثه …
فـقد حـلَّ فـيه الأمـن بـالبركات
نــبـي الـهـدى صـلـى عـلـيه مـلـيكه …
وبلغ عـنـا روحــه الـتـحفات
وصـلَّـى عـلـيه الله مــا ذرَّ شـارق …
ولاحـت نـجـوم الـلـيل مـبـتدرات
أفـاطـم لـوخـلت الـحـسين مـجدلاً …
وقد مـات عـطشاناً بـشط فـرات
إذاً لـلطمت الـخد فـاطم عـنده …
وأجريت دمـع الـعين فـي الـوجنات
أفـاطـم قـومـي يـا ابـنة الـخير وانـدبي …
نجوم سـماواتٍ بـأرض فـلاة
قــبـور بـكـوفـان وأُخـــرى بـطـيـبة …
وأُخـــرى بـفـخٍّ نـالـها صـلـواتي
وقبر بــأرض الـجـوزجان مـحـلُّه …
وقبر بـبـاخمرى لــدى الغربات
وقــبـر بـبـغـداد لـنـفـس زكــيـة …
تـضـمنها الـرحـمن فــي الـغـرفات
(وقبر بطوس يا لها من مصيبة …
ألحت على الأحشاء بالزفرات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً …
يفرج عـنـا الـغـم والـكـربـات (١))
فـأمّـا الـمـمضّات الـتـي لـسـت بـالـغاً …
مبالغها مـنـي بـكـنه صـفات
قـبـور ببطن الـنـهر مــن جنب كـربـلا …
معرَّسهم مـنها بـشطِّ فـرات
تـوفـّوا عـطـاشاً بالفرات فـلـيتني …
توفيت فـيـهم قـبـل حـين وفـاتي
إلـى الـلّه أشكو لوعة عند ذكرهم …
سقتني بكأس الثكل والفظعات
أخـــاف بـــأن أزدارهـــم فـتـشوقني …
مصارعهم بـالـجزع فـالـنخلات
تغشاهم ريـب المنون فـما تـرى …
لهم عـقوة مـغشية الـحجرات
خلا أن مـنهم بـالمدينة عـصبة …
مدينين أنضاءً من اللزبات
قـلـيـلة زوار ســـوى بــعـض زُوَّرٍ …
مــن الـضـبع والـعـقبان والـرخـمات
لـهـم كــل يـوم تربة بـمضاجعٍ …
ثوت في نواحي الأرض مفترقات
تـنـكـب لأواء الـسـنين جـوارهـم …
فلا تـصـطليهم جـمـرة الـجـمرات
وقــد كــان مـنـهم بـالـحجاز وأرضها …
مغاوير يُختارون في الأزمات
حـمىً لـم تـزره الـمذنبات وأوجه …
تضيء لدى الأستار في الظلمات
إذا وردوا خــيـلاً بسمر من الـقـنا …
مساعير حرب أقحموا الغمرات
فإن فــخـروا يــومـاً أتــوا بـمـحمد …
وجبريل والـفـرقان والـسـورات
وعـــدوا عـلـياً ذا الـمـناقب والـعـلى …
و فـاطـمة الـزهـراء خـيـر بـنـات
وحـمزة والـعباس ذا الـهدي والـتقى …
و جـعفراً الـطيار في الحجبات
أولــئـك لا ملقوح هـنـد وحزبها …
سمية مــن نـوكـى ومــن قــذرات
سـتـسـأل تــيـم عـنـهـم وعـديُّـهـا …
وبيعتهم مـــن أفـجـر الـفـجرات
هـم مـنعوا الآبـاء عـن أخـذ حـقهم …
وهم تـركوا الأبـناء رهـن شـتات
وهــم عـدلـوها عــن وصـيِّ مـحمد …
فبيعتهم جـاءت عـلى الـغدرات
وليهم صنو النبي محمد …
أبو الحسن الفراج للغمرات
مـلامـك فــي آل الـنـبيِّ فـانـهم …
أحبّايَ مــا داموا وأهــلُ ثـقاتي
تـخـيَّرتهم رشــداً لنفسي فـانـهم …
على كــل حــال خـيرة الـخيرات
نـبـذت إلـيـهم بـالـمودة صـادقـاً …
وسلمت نـفـسي طـائـعاً لـولاتـي
فـيا ربِّ زدنـي في هواي بـصيرة …
وزد حـبهم يـا رب في حسناتي
سـأبـكيهم مــا حــج لـلّـه راكـب …
ومـا نــاح قـمري عـلى الـشجرات
وإني لمولاهم وقالٍ عدوَّهم …
وإني لمحزون بطول حياتي
بـنـفسي أنـتـم مــن كـهـول وفـتـية …
لـفـكِّ عُنَاةٍ أولـحـمل ديـات
ولـلـخـيل لـــمَّا قــيَّـد الــمـوت خـطـوهـا …
فأطلقتم مـنـهن بـالـذربات
أحـب قـصيَّ الـرحم مِـن أجـل حـبكم …
وأهجر فـيكم زوجتي وبناتي
وأكـتـم حـبِّـيكم مـخـافة كـاشـح …
عنيد لأهــل الـحـق غـيـر مــوات
فـيـا عـيـن بـكِّـيهم وجــودي بـعبرة …
فـقد آن لـلتسكاب والـهملات
لـقد خـفت فـي الـدنيا وأيـام سـعيها …
وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
ألــم تــر أنــي مــن ثـلاثـين حـجـة …
أروح وأغــدو دائــم الـحـسرات
أرى فـيـئهم فــي غـيـرهم مـتـقسماً …
وأيديهم مـن فـيئهم صـفرات
وكيف أُداوي مـن جـوىً بي والجوى …
أُمية أهل الكفر واللعنات
وآل زيــاد فــي الحرير مـصـونة …
وآل رســول الله منهتكات
سـأبكيهم مـا ذرَّ فـي الأرْض شـارق …
ونادى مـنادي الـخير بالصلوات
ومــا طـلـعت شـمـس وحــان غـروبـها …
وبالليل أبـكـيهم وبـالغدوات
ديـــار رســـول الــلّـه أصـبـحن بـلـقعا …
وآل زيــاد تـسـكن الـحـجرات
وآل رســــول الله تــدمــى نــحـورهـم …
وآل زيـــاد آمنوا السربات
وآل رســــول الله يـسـبـى حـريـمـهم …
وآل زيـــادٍ ربة الحجلات
إذا وتــــروا مــــدّوا إلـــى واتـريـهـم …
أكفاً عـــن الأوتـــار مـنـقـبضات
فـلولا الـذي أرجـوه فـي الـيوم أو غـد …
تقطع نفسي إثـرهم حـسرات
خــروج إمــام لا مـحـالة خـارج …
يـقوم عـلـى اســم الـلّـه والـبركات
يـمـيـز فـيـنا كــل حــق وبـاطـل …
ويجزي عـلـى الـنـعماء والـنـقمات
فـيا نـفس طـيبي ثـم يـا نـفس أبـشري …
فغير بـعيد كل ما هو آت
ولا تـجـزعي مــن مـدة الـجور إنـني …
أرى قوتي قـدْ آذنـتْ بثبات (١)
فيا رب عجل ما أؤمل فيهم …
لأشفي نفسي من أسى المحنات
فـإن قـرَّب الـرحمان مِـن تـلك مـدتي …
وأخر مـن عـمري ووقت وفاتي
شـفيت ولـم أتـرك لـنفسي غصة …
ورويـت مـنهم مـنصلي وقناتي
فـإِني مـن الـرحمن أرجـو بـحبهم …
حياة لـدى الـفردوس غـير بَـتَات
عـسـى الله أن يأوي لذا الـخلق إنـه …
إلـى كــل قـوم دائـم الـلحظات
فــإن قـلـت عـرفاً أنـكروه بـمنكر …
وغطوا عـلى الـتحقيق بـالشبهات
تـقـاصر نـفسي دائـما عـن جـدالهم …
كفاني مـا ألـقى مـن الـعبرات
أُحــاول نـقـل الصُّم عن مـستقرها …
وإسماع أحـجار مـن الـصلدات
فـحـسـبي مـنـهـم أن أبوء بـغـصّة …
تــردد في صدري وفي لهَوات
فـمـن عــارف لــم يـنـتفع ومـعـاند …
تميل به الأهــواء للـشهوات
كـأنـك بـالأضـلاع قـد ضـاق رحـبُها …
لما حملت مـنْ شـدة الـزفرات
وروي عن أبي الصلت الهروي قال سمعت دعبلاً قال :
لما أنشدت مولانا الرضا (عليه السلام) القصيدة ، وانتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة خارج …
يقوم على اسم الله بالبركات
يميز فينا كل حق وباطل …
ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا (عليه السلام) بكاءً شديداً ، ثم رفع رأسه إليّ ، وقال يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم ؟
قلت لا ، إلا أني سمعت يا مولاي بخروج إمام منكم ، يملأ الأرض عدلاً ،
فقال : يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني ، ومن بعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، ولو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد ، لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً (١) .
روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) قال : حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد ابن هشام المؤدب وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنهما قالا : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن عبد السلام بن صالح الهروي قال :
دخل دعبل بن علي الخزاعي (رحمه الله) على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقال له : يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني قد قلت فيك قصيدة ، وآليت على نفسي أن لا أُنشدها أحداً قبلك ،
فقال (عليه السلام) : هاتها فأنشده :
مدارس آيات خلت من تلاوة …
ومنزل وحـي مـقـفـر العرصات
فلما بلغ إلى قوله :
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً …
وأيديهـم مـن فـيـئـهـم صـفـرات
بكى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) وقال له : صدقت يا خزاعي . فلما بلغ إلى قوله :
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم …
أكفاً عن الأوتار مـنـقـبـضـات
جعل أبو الحسن (عليه السلام) يقلب كفيه ويقول : أجل والله منقبضات فلما بلغ إلى قوله :
لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها …
وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
قال الرضا (عليه السلام) : آمنك الله يوم الفزع الأكبر ، فلما انتهى إلى قوله :
وقبر ببغداد لنفس زكية …
تضمنها الرحمن في الغرفات
قال له الرضا (عليه السلام) : أفلا الحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك ؟ فقال : بلى يا ابن رسول الله ، فقال (عليه السلام) :
وقبر بطوس يا لها من مصيبة …
توقد في الأحشاء بـالـحـرقـات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً
يفرج عـنـا الـهـم والـكــربـات
فقال دعبل : يابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو ؟
فقال الرضا (عليه السلام) : قبري ، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزواري ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له ! ثم نهض الرضا (عليه السلام) بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة ، وأمره أن لا يبرح من موضعه ، فدخل الدار فلما كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمائة دينار رضوية ، فقال له : يقول لك مولاي اجعلها في نفقتك .
فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليّ ! وردّ الصرة ، وسأل ثوباً من ثياب الرضا (عليه السلام) ليتبرك ويتشرف به ، فأنفذ إليه الرضا (عليه السلام) جبة خز مع الصرة ،
وقال للخادم : قل له خذ هذه الصرة ، فإنك ستحتاج إليها ، ولا تراجعني فيها ، فأخذ دعبل الصرة والجبّة ، وانصرف وسار من مرو في قافلة ، فلما بلغ ميان قوهان وقع عليهم اللصوص ، فأخذوا القافلة بأسرها ، وكتفوا أهلها وكان دعبل في من كتف ، وملك اللصوص القافلة وجعلوا يقسمونها بينهم ،
فقال رجل من القوم متمثلاً بقول دعبل في قصيدته :
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً …
وأيديـهـم مـن فـيـئـهـم صـفـرات
فسمعه دعبل فقال له : لمن هذا البيت ؟
فقال : لرجل من خزاعة يقال له دعبل بن علي ،
قال : فأنا دعبل قائل هذه القصيدة التي منها هذا البيت ،
فوثب الرجل إلى رئيسهم وكان يصلي على رأس تل ، وكان من الشيعة ، فأخبره فجاء بنفسه حتى وقف على دعبل ، وقال له :
أنت دعبل ؟
فقال نعم،
فقال له : أنشدني القصيدة فأنشدها ، فحل كتافه وكتاف جميع أهل القافلة ، ورد إليهم جميع ما أخذ منهم لكرامة دعبل .
وسار دعبل حتى وصل إلى قم ، فسأله أهل قم أن ينشدهم القصيدة ، فأمرهم أن يجتمعوا في المسجد الجامع ، فلما اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم القصيدة ، فوصله الناس من المال والخلع بشيء كثير ، واتصل بهم خبر الجبّة ، فسألوه أن يبيعها بألف دينار فامتنع من ذلك ،
فقالوا له : فبعنا شيئاً منها بألف دينار فأبى عليهم ، وسار عن قم ، فلما خرج من رستاق البلد لحق به قوم من أحداث العرب وأخذوا الجبّة منه ، فرجع دعبل إلى قم وسألهم ردّ الجبّة ، فامتنع الأحداث من ذلك ، وعصوا المشايخ في أمرها ،
فقالوا لدعبل : لا سبيل لك إلى الجبة فخذ ثمنها ألف دينار فأبى عليهم ، فلما يئس من ردّهم الجبّة ، سألهم أن يدفعوا إليه شيئاً منها فأجابوه إلى ذلك ، وأعطوه بعضها ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار ، وانصرف دعبل إلى وطنه ، فوجد اللصوص قد أخذوا جميع ما كان في منزله ، فباع المأة الدينار التي كان الرضا (عليه السلام) وصله بها ، فباع من الشيعة كل دينار بمأة درهم ، فحصل في يده عشرة آلاف درهم ، فذكر قول الرضا (عليه السلام) : إنك ستحتاج إلى الدنانير .