ما جرى على محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن المجتبى (؏)

ما جرى على محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن المجتبى (؏)


ذكر ابن الأثير في الكامل وغيره من علماء العامة ما جرى على محمد بن عبد الله بن حسن بن الإمام الحسن المجتبى (؏) من المنصور الدوانيقي من الظلم ، ذكر مسير عيسى بن موسى إلى محمد بن عبد الله وقتله : ثم إن المنصور أحضر ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس ، وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد ، فقال : شاور عمومتك يا أمير المؤمنين ! ثم قال فأين قول ابن هرثمة :


ترون امراً لا يمحض القوم سره 

ولا ينتجي الأدنين في ما يحاول 

إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أبى 

وإن قال إنـي فـاعـل فـهـو فـاعـل 


فقال المنصور امضِ أيها الرجل ، فوالله ما يراد غيري وغيرك ، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا .


فسار وسيَّر معه الجنود . 

وقال المنصور لما سار عيسى : لا أُبالي أيهما قتل صاحبه . 

وبعث محمد بن أبي العباس السفاح ، وكثير بن حصين العبدي ، وابن قحطبة وهزار مرد وغيرهم ، 

وقال له حين ودعه يا عيسى إني أبعثك إلى ما بين هذين ، وأشار إلى جنبيه ، فإن ظفرت بالرجل فأغمد سيفك ، وابذل الأمان ، وإن تغيّب فضمِّنهم إياه حتى يأتوك به ، فإنهم يعرفون مذاهبه ، ومن لقيك من آل أبي طالب فاكتب إليّ باسمه ، ومن لم يلقك فاقبض ماله .


وكان جعفر الصادق تغيَّب عنه فقبض ماله ، فلما قدم المنصور المدينة ، قال له جعفر في معنى ماله ، فقال قبضه مهديكم . 


فلما وصل عيسى بن موسى إلى فيد ، كتب إلى الناس في خرق حرير ، منهم عبد العزيز بن المطلب المخزومي ، وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي ، وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يأمره بالخروج من المدينة في من أطاعه ، فخرج هو وعمر بن محمد ابن عمر ، وأبو عقيل محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل وأبو عيسى . 


ولمّا بلغ محمداً قرب عيسى بن موسى من المدينة ، استشار أصحابه في الخروج من المدينة ، أو المقام بها فأشار بعضهم بالخروج عنها ، وأشار بعضهم بالمقام بها ، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) 

رأيتني في درع حصينة فأوَّلتها المدينة ، 

فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، 

فقال له جابر بن أنس رئيس سليم : يا أمير المؤمنين نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع ، فلا تخندق الخندق ، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، خندق خندقه لما الله أعلم به ، وإن خندقته لم يحسن القتال رجالة ، ولم توجه لنا الخيل بين الأزقة ، وإن الذين يُخَنْدَق دونهم هم الذين يقاتلون فيها ، وإن الذين يُخندق عليهم يحول الخندق دونهم ، 

فقال أحد بني شجاع خندق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقتد به ، أو تريد أنت أن تدع أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرأيك ، 

قال إنه والله يابن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم ، وما شيء أحب إلينا من مناجزتهم ، 

فقال محمد إنما اتبعنا في الخندق أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يردني أحد عنه ، فلست بتاركه . 


وأمر به فحفر ، وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق ، الدي حفره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأحزاب .


وسار عيسى بن موسى حتى نزل الأعوص ، وكان محمد قد جمع الناس ، وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون ، وخطبهم محمد بن عبد الله ، فقال لهم : 

إن عدو الله عدوكم قد نزل الأعوص ، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار ، ألا وإنّا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق ، وعدوكم في عدد كثير ، والنصر من الله ، والأمر بيده ، وإنه قد بدا لي أن أذن لكم ، فمن أحب منكم أن يقيم أقام ، ومن أحب أن يظعن ظعن .


فخرج عالم كثير ، وخرج ناس من أهل المدينة ، بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال ، وبقي محمد في شرذمة يسيرة ، فأمر أبا القلمَّس بردّ من قدر عليه منهم ، فأعجزه كثير منهم ، فتركهم .


وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى بن موسى ينزله المنازل ، فلما قدموا نزلوا على ميل من المدينة ، فقال ابن الأصم إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة ، وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكركم . 

فتأخروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف ، وهي على أربعة أميال من المدينة ، وقال لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل . 

وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة فأقاموا بها ، وقال أخاف أن ينهزم محمد فيأتي مكة فيرده هؤلاء ، فأقاموا بها حتى قتل .


وأرسل عيسى إلى محمد ، يخبره أن المنصور قد آمنه وأهله ، فأعاد الجواب يا هذا إنّ لك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرابة قريبة ، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنّة نبيّه والعمل بطاعته ، وأحذرك نقمته وعذابه ، وإني والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه ، فإيّاك أن يقتلك من يدعوك إلى الله ، فتكون شر قتيل ، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك ، فلما بلغته الرسالة ، قال عيسى ليس بيننا وبينه إلا القتال ، 

وقال محمد للرسول علام تقتلونني ، وإنما أنا رجل فرّ من أن يُقتل ، 

قال : القوم يدعونك إلى الأمان ، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك عليّ ، طلحةَ والزبير على نكث بيعتهم وكيد ملكهم ، فلما سمع المنصور قوله ،

قال ما سرَّني أنه قال غير ذلك ، وأنَّ لي كذا وكذا .


ونزل عيسى بالجرف صبيحة اثنتي عشرة من رمضان يوم السبت ، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الاثنين ، فوقف على سلع فنظر إلى المدينة ومن فيها ، فنادى يا أهل المدينة إن الله حرم دماء بعضنا على بعض ، فهلموا إلى الأمان ، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمنر، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمنر، ومن خرج من المدينة فهو آمن ، خلّوا بيننا وبين صاحبنا ، فإما لنا وإما له فشتموه ، وانصرف من يومه وعاد من الغد ، وقد فرق القواد من سائر جهات المدينة ، إلا ناحية مسجد أبي الجراح ، وهو على بطحان ، فإنه أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم .


وبرز محمد في أصحابه ، وكانت رايته مع عثمان بن محمد بن خالد ابن الزبير ، وكان شعاره أحد أحد ، فبرز أبو القلمس وهو من أصحاب محمد ، فبرز إليه أخو أسد بن المرزبان واقتتلا طويلاً فقتله أبو القلمس ، وبرز إليه آخر فقتله ، فقال حين ضربه خذها وأنا ابن الفاروق ،

فقال رجل من أصحاب عيسى : قتلت خيراً من ألف فاروق .


وقاتل محمد بن عبد الله يومئذ قتالاً عظيماً ، فقتل بيده سبعين رجلاً ، وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة كلهم راجل سواه ، فزحفوا حتى بلغوا جداراً دون الخندق عليه ناس من أصحاب محمد ، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق ، ونصب عليه أبواباً وعبر هو وأصحابه عليها ، فجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه أشد قتال من بكرة إلى العصر ، وأمر عيسى أصحابه فألقوا الحقائب وغيرها في الخندق ، وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل ، فاقتتلوا قتالاً شديداً .


فانصرف محمد قبل الظهر ، فاغتسل وتحنط ثم رجع ، فقال له عبد الله بن جعفر بأبي أنت وأمي ، والله ما لك بما ترى طاقة فلو أتيت الحسن ابن معاوية بمكة ، فإن معه جل أصحابك ، 

فقال لو خرجت لقتل أهل المدينة ، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل ، وأنت مني في سعة ، فاذهب حيث شئت .


فمشى معه قليلاً ثم رجع عنه ، وتفرق عنه جل أصحابه ، حتى بقي في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً ، فقال لبعض أصحابه نحن اليوم بعدة أهل بدر، وصلى محمد الظهر والعصر وكان معه عيسى بن خضير ، وهو يناشده إلا ذهبت إلى البصرة أو غيرها ، 

ومحمد يقول والله لا تبتلون بي مرتين ، ولكن اذهب أنت حيث شئت 

فقال ابن خضير وأين المذهب عنك؟ ثم مضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعه ، وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان ، وقتل ابن مسلم بن عقبة المري، ومضى إلى محمد بن القسري وهو محبوس ليقتله ، فعلم به فردم الأبواب دونه ، فلم يقدر عليه ، ورجع إلى محمد ، فقاتل بين يديه حتى قُتل .


وتقدم حميد بن قحطبة وتقدم محمد ، فلما صار ينظر مسيل سلع عرقب فرسه ، وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابهم ، ولم يبقَ أحد إلا كسر جفن سيفه ، فقال لهم محمد : 

قد بايعتموني ولست بارحاً حتى أُقتل ، فمن أحب أن ينصرف فقد أذنت له .


واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى مرتين وثلاثاً ، وقال يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر : وقد انهزموا : 

ويل أمه فتحاً لو كان له رجال! فصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع ، وانحدروا منه إلى المدينة ، وأمرت أسماء بنت حسن بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس بن عبد المطلب بخمار أسود ، فرفع على منارة مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، 

فقال أصحاب محمد دخلت المدينة فهربوا ، 

فقال يزيد لكل قوم جبل يعصمهم ، ولنا جبل لا نؤتى إلا منه يعني سلعاً .


وفتح بنو أبي عمرو الغفاريون طريقاً في بني غفار لأصحاب عيسى ، ودخلوا منه أيضاً ، وجاؤوا من وراء أصحاب محمد ، ونادى محمد حميد ابن قحطبة ابرز إلي ، فأنا محمد بن عبد الله ، 

فقال حميد قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم، لا والله لا أبرز إليك وبين يدي من هؤلاء الأغمار أحد ، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك .


وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشحّ به عن الموت ، وابن خضير يحمل على الناس راجلاً ، لا يصغي إلى أمانه ، وهو يأخذه بين يديه ، فضربه رجل من أصحاب عيسى على أليته فخلَّها (١)، فرجع إلى أصحابه فشدها بثوب ، ثم عاد إلى القتال فضربه إنسان على حَجَاج عينه (١) فغاص السيف في عينه وسقط ، فابتدروه فقتلوه واحتزوا رأسه ، وكأنه باذنجانة مفلَّقة من كثرة الجراح فيه .