الإنسانية

المرجع الديني الكبير الإمام المصلح العبد الصالح 

الحاج ميرزا حسن الحائري الإحقاقي قدس سره


الإنسانية


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم ومبغضيهم ومنكري فضائلهم من الآن إلى يوم الدين آمين رب العالمين .


قال تعالى : 

{وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ}


قسما بالعصر الحاضر ، والعصور السالفة ، قسما بالدهر والزمان ، قسما بوقت العصر من النهار ، قسما بعلي ولي الله (الذي هو تأويل صلاة العصر) ، قسما بكل هذه الأمور العظيمة الجليلة ... كل لحظة ودقيقة وساعة تنقضي من عمر الإنسان وحياته ، فإنما يقضي ذلك في خسران وضياع ، يستثنى من ذلك أولئك الذين عوضوا عن هذه الخسارة بالأعمال الصالحة ، وضمنوا الحياة الأخرى بذلك . 


إذا ألقينا نظرة سريعة على الأحداث العلمية والفنية والسياسية في هذا العصر فسنجد من الرقي والتقدم والإزدهار ما يبعث على الدهشة والحيرة، فالأجهزة الفيزيائية والمصانع الميكانيكية تمد البشرية كل يوم بصناعة حديثة واختراعات عجيبة وآثار خلابة وجميلة ، فهذه الغواصات العملاقة التي سبقت الحيتان والتماسيح معترضة عرض البحار فحدث عنها ولا حرج وأيضا الطائرات النفاثة ، ورواد الفضاء للعالم العلوي يمثلون دور الأبالسة والشياطين ، والصواريخ والسفن الفضائية والأقمار الصناعية تجاوزت حد السحر إلى مرتبة الإعجاز والكرامات ، إن هذه الصناعات ، وهذه المظاهر وإن كانت مثيرة للإعجاب ، إلا أنها فنون وأساليب سهلة المنال ، وهي في طريقها إلى التطور والتكامل وباستطاعة كل فرد أن يصل إلى الدرجات العليا فيها بالدراسة والعمل والممارسة ، ولكن الدرس الصعب الثقيل والجدير بالإهتمام ، والذي يصعب على كثير من الناس تلقيه هو درس الإنسانية فحسب !! 


لقد جاء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، مع أوصيائهم وخلفائهم ، والعلماء والحكماء العظام وفتحوا المدارس العظيمة لأحكام الإنسانية وآدابها ، ابتداء من روضة الأطفال حتى مراحل الدراسات العليا .. 


وقد ضحوا في سبيل التعليم والتربية ، ليعلموا الناس دروس معرفة الله وتوحيده ، ويلقنوهم (رسالة الإنسانية) ومن الصعوبة بمكان أن تجد واحدا من بين الملايين شاقا طريقه مخترقا الحواجز والموانع ، ليصبح نصف إنسان أو شبه إنسان ويستثمر المزايا العالية لحقيقته أجل يستطيع الشخص بكل سهولة أن يكون فلكيا ، طبيبا ، مهندسا ، كيماويا ، سياسيا ، مليونيرا ، مجتهدا ، مرشدا ، خطيبا ، مربيا ، رئيسا جسميا أو روحيا ولكن ما يشق الوصول إليه هو أن يكون إنسانا !! 


إن إجتياز عقبات الحيوانية ومكافحة شهوات النفس الأمارة من أصعب المشاق .


وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول : «بقى عليكم الجهاد الأكبر» يعني بذلك أن الظفر بالعدو والتغلب عليه هو الجهاد الأصغر في حين أن الجهاد الأكبر هو الكفاح مع النفس الأمارة بالسوء وهذا ما يدعو مكتشف الذرة إلى أن ينحني إجلالا أمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ... 


لأنهم عرفوا الإنسان وتمنوا الإنسانية واعترفوا بأن المقام السامي للإنسانية ارفع وأعلى قدرا من هذه المراتب العلمية التي توصلوا إليها قال علي عليه السلام : «نحن الناس ، وشيعتنا أشباه الناس ، وباقي الناس نسناس» 


لقد شهد الصدر الأول للإسلام افتتاح مدرسة الإنسانية كان المعلم فيها خاتم الأنبياء والرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قامت هذه المدرسة بتربية الناس وتهذيبهم طيلة ثلاث وعشرين سنة . 


وكانت النتيجة أن تخرج منها إنسان واحد هو (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) وعدد من أشباه الناس (كسلمان وأبي ذر وغيرهما) إذن فعلي وشيعته ومحبوه الحقيقيون هم خريجو هذه المدرسة إذن ليست الإنسانية عملا ميسورا لكل أحد ، إنها تتطلب نكران الذات والرياضة النفسية والتهيؤ الكامل والإيمان العميق بالله العظيم ويوم الحساب وإذا استطاع أن يصل إلى المقام الأسنى للإنسانية بتخلصه عن الأخلاق الذميمة والتخلي عن البهيمية والإنصاف بالصفات والكمالات اللائقة بالإنسان ، عند ذاك يحق له أن يفخر ويزهو . 


أجل ! هذا الإيمان بالله والعمل الصالح هو الذي يتدارك ويتلاقى الخسارة التي تلحق بالإنسان . 


إن رأس المال الذي يملكه الإنسان هو عمره الثمين والدقائق التي تفوت من عمره مجردة عن الإيمان والعمل الصالح تعود عليه بالخسران فالإيمان والعمل الصالح يمثلان الربح الذي يحصل عليه الفرد في الإتجار برأس ماله ضامنا لنفسه السعادة الدائمة والحياة الأبدية في الآخوة .