مفهوم الموت و الحياة



خطبة الحكيم الإلهي الميرزا عبدالله الحائري الإحقاقي 

 ٢٩ شوال ١٤٣٤هـ


مفهوم الموت و الحياة


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا البشير النذير والسراج المنير أبي القاسم محمد ، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، واللعن الدائم على أعدائهم ومخالفيهم وغاصبي حقوقهم ومنكري فضائلهم إلى قيام يوم الدين أبد الآبدين آمين يا رب العالمين .


قال أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب (ع) : «الناس نيام إذا ماتوا إنتبهوا» وفي حديث آخر «موتوا قبل أن تموتوا» .


أيها المكرمون ، وأيتها المكرمات ، مشايخنا علمائنا الأعزاء ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .


ينصرف مفهوم الحياة لدى عامة الناس إلى الحياة العادية وحركة الجسم الظاهرية ، بينما ينصرف مفهوم الموت عندهم إلى إنعدام حركة البدن وسكون الأعضاء والجوارح ، (وبعبارة موجزة) فإن الحي يرادف ذا الروح ، والميت يرادف فاقد الروح عندهم . 


أما في تعبير القرآن وفي لسان الأحاديث وفي منظور الدين فإن للحياة والموت معاني أخرى ، تعتبر هذه الحياة إتجاهها مسألة نسبية ومجازية ، هذا المعنى المجازي للموت في الواقع نوع من التحول ، إذ هو نزع لباس الناسوت يعني عالم المادة لإرتداء رداء البرزخ ، (بعبارة أخرى) الموت عبارة عن الإنتقال من هذا العالم الفاني الدني إلى عالم الخلود والبقاء ، من حيث أن للحياة ثلاث مراحل (الدنيا والبرزخ والقيامة) ، في الواقع حياة الآخرة تبدأ من عالم البرزخ مباشرة بعد الموت ، خلقنا الله تبارك وتعالى لأجل إيصالنا إلى الكمال اللائق بنا ، وبما أننا مخلوقون من جزئين الأول المادي والآخر الروحاني ، فإننا يجب أن نقطع مراحل من التكامل المناسب للروح والمادة كلٌّ بحسبه ، ولا يكون التكامل إلا بإنتهاج شرائع الله وأحكامه ،


وقد ورد في بعض الأخبار أن غاية خلق الإنسان هي المعرفة ، حيث جاء في تفسير قوله تعالى {وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي *ليعرفون* ،  فمعرفة الله تعالى تؤدي إلى تكامل الإنسان ، والموت مرحلة من مراحل التكامل يمر بها الإنسان شاء أم أبى ، وبديهيٌّ أن العبور من عالم الناسوت وسلوك درجات الكمال نحو الملكوت أي عالم المعنى ليس أمرا سهلا بل يحتاج إلى تدريب ومراس ومتابعة أخلاقية .


إذاً فإن ما يأمرنا مولانا أمير المؤمنين بالموت ، فهو يأمرنا بالإنتقال والإرتقاء إلى عالم آخر يختلف عن هذا العالم إلى عالم الكمال ، فهو يأمرنا بالصعود في مدارج الكمال والسعي للوصول إلى أرفع العوالم والمقامات ، لكن كيف يكون ذلك ، ما هو السبيل للوصول ؟؟! 


 فيتضح لنا ذلك عندما نقارن بعض أحوال الإنسان الميت وأحوال السالك الساعي لما أمر به الإمام المعصوم (ع) ، عندما يموت الإنسان وتفارق روحه جسده فإن الدنيا لا تأثر فيه من حر وبرد ومصائب ومشاكل والعوارض يبقى هو كما هو ، يرى ويسمع ويحس فهو موجود لكن لا يتأثر وقد يؤثر ، كذلك يأمرنا الإمام بعدم التأثر بهذه الدنيا الدنية ، أو التأثر بمغرياتها والشهوات والميولات التي فيها ، ويأمرنا بالمقاومة أمام الإبتلاءات والإختبارات التي تجري علينا في هذه الدنيا ، فلا تزل أقدامنا لأي ابتلاء أو مصيبة بل تبقى على طريق الحق والولاية ، وعلى السالك الذي يريد أن يموت قبل أن يموت ، أن يميت ميله إلى هذه الدنيا ، وأن يميت الإنية التي فيه ولا يشعر بوجوده ، وهو لا يتأثر بهذه الدنيا أو تؤثر عليه مهما صعبت وإشتدت ، ومهما كثرت أو زادت مغرياتها ، ويمشي بخطى ثابته لإدراكه معنى الحياة الواقعية ، وهي حياة الإنسانية واللذة الحقيقية بعدما إنكشف له الجمال الحقيقي يعني جمال نور محمد وآله الطاهرين .


ونراه قد أوقف حياته كلها لكي تكون طريقاً للوصول إلى تلك اللذة .


أعزائي وأما الميت يرى الأشياء على حقيقتها ، فعندما يرى الميت إنساناً لا يراه رجل أو طفلاً قط ، بل يرى تجسيد عمله إن كان في رضا الله ورضا أهل البيت عليهم السلام يرى فيه الجمال والبهاء ، أما إن كان عمله في معصية الرب فإن الميت يراه بتجسيد تلك المعصية من القبح والدناءة ، وعلينا أن نرى الأشياء على حقيقتها قبل الموت في هذه الدنيا ولكن كيف ؟؟! 


هناك طريقة واحدة ، وهي الرؤيا بتلك العين التي أودعها أهل البيت عليهم السلام في صدر كل مؤمن ، ألا وهي عين البصيرة ، وفي بعض الأقوال هي العين البرزخية ، تلك العين التي ترى الأشياء على حقائقها ، والتي عن طريقها نتمكن أن نرى طريق الحق ، ونهتدي إلى طريق الصواب والهداية ، والإبتعاد عن طريق الشرك والضلال ، 


ولقد قال أمير المؤمنين (ع) : «الناس نيام إذا ماتوا إنتبهوا» ، يقصد الإمام بأن تلك العين يعني عين البصيرة كانت نائمة ، وكان صاحبها يعيش في غفلة ، إذاً علينا أن نموت قبل أن نموت بإستيقاظنا من الغفلة التي نحن فيها ، فيجب علينا أن نخطو هذه الخطوة يعني طريق أهل البيت عليهم السلام والسعي للوصول إلى الغاية التي رسمها لنا أهل البيت قبل فوات الأوان وحظور الموت ، وظهور صاحب الأمر الحجة بن الحسن العسكري روحي و أرواحنا له الفداء (عج) ، حيث في تلك اللحظة لا ينفع المرء شيء غير بلوغه الغاية المنشودة التي هي الرجوع إلى المبدأ والوصول إلى الكمال .


أعزائي كما يكون الموت تصفية لآخر ذنبٍ للمؤمن ، كذلك الإستيقاض من الغفلة والثبات على محبة محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والتمسك بهم تَنهي الذنوب كلها .


اللهم لا تحرمنا ما أنعمت وأعطيت علينا به من ولايتك وولاية محمد وآله الطيبين الطاهرين .


أقول أن الحياة الدنيوية مليئة بالآلام والمحن ، فالمشاكل لا تغادر الشخص في هذه الحياة ولا تتركه آناً من الزمان ، وأن الحياة السعيدة الأبدية هي الحياة الآخرة التي يستطيع الشخص في أيام عمره إعداد الأدوات المناسبة لها وتحضير الزاد والراحلة لها ، ولهذا فإن الإنسان المؤمن الواعي يستغل حياته ويستخدمها للسعادة الدائمة والوصول إلى الحياة الأبدية ، وفي ذلك أمير المؤمنين (ع) يقول : «خذ من نفسك لنفسك وتزود من يوم لغدك» ، بعبارة أخرى «موتوا قبل أن تموتوا»


نحن نعيش أيام شهادة رئيس المذهب الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ، نحمد الله على نعمة الإسلام ، ونعمة التشيع ، ونعمة العقيدة الأوحدية الحقة التي من خالفها فإنه يخالف عقيدة أهل البيت عليهم السلام ، لأنه أعني شيخ المتألهين أحمد بن زين الإحسائي أعلى الله مقامه لم يأخذ إلا منهم ، ولم يكن تابعاً إلا لهم عليهم السلام ، ولا يخالفه إلا جاهل بمقامه أو معاند مكابر أو مدسوس للفتنة والتفرقة .


وفي الخاتمة أشكركم جميعا ، وأشكر وكلائنا ومشايخنا كلهم في الكويت و في الأحساء وسائر المناطق ، خاصة أبو صادق عبدالله نجم المزيدي  والشيخ توفيق البوعلي حفظهما الله وأبقاهما للإسلام ، لأنهما نعمتان ثمينتان لنا ، ونطلب من الله العليم يسدد أقدامهما ويحفظهما من كل شر بحق صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن العسكري روحي وأرواحنا له الفداء .


وفي الخاتمة نذكر آباؤنا وآباءكم وعلماءنا ومراجعنا المرحومين سيما عمي الأكبر آية المعظم الحاج ميرزا علي الحائري الإحقاقي ، والإمام المصلح والعبد الصالح الميرزا حسن الحائري الإحقاقي ، ووالدي المجاهد المظلوم آية المعظم خادم الشريعة الغراء الميرزا عبدالرسول الحائري الإحقاقي . 


وأوصيكم بالتقوى والمحبة والمودة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .