أنواع النفس



خطبة الحكيم الإلهي الميرزا عبدالله الحائري الإحقاقي 

١٨ ربيع الآخر ١٤٣٤هـ


أنواع النفس


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


الحمد لله رب العالمين 

السَّلامُ عَلَيكُمْ يا أهلَ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَوضِعَ الرِّسالَةِ وَمُختَلَفَ المَلائِكَةِ وَمَهبِطَ الوَحي وَمَعدِنَ الرَّحمَةِ وَخُزَّانَ العِلمِ وَمُنتَهى الحِلمِ وَأُصُولَ الكَرَمِ وَقادَةَ الاُمَمِ وَأولياءِ النِّعَمِ وَعَناصِرَ الأبرارِ وَدَعائِمَ الأخيارِ وَساسَةَ العِبادِ وَأركانَ البِلادِ وَأبوابَ الإيمانِ وَاُمَناءَ الرَّحمنِ وَسُلالَةَ النَّبِيِّينَ وَصَفوَةَ المُرسَلِينَ وَعِترَةَ خِيرَةِ رَبِّ العالَمِينَ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ .


قال الرسول الأعظم : «أعرفكم بنفسه ، أعرفكم بربه» .


وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام : «من عرف نفسه ، فقد عرف ربه»


إخواني المؤمنين ، و أخواتي المؤمنات ، شبابنا الأعزاء ، علمائنا المكرمين ، مشايخنا العظام ، ضيوفنا المحترمين من الإحساء و سائر البلاد ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .


قد كثرت تفاسير هذا الحديث الشريف الذي تلوت أول خطابي وتعددت شروح هذا الكلام اللطيف لكثرة المتصدين لشرحه وتبيان معانيه ، إلا أن آراءهم مضطربة في ذلك ، وشروحهم متفاوته جداً ، لإختلاف أفهامهم وأنظارهم و إستعدادات قابلياتهم وتفاوت مراتبهم ودرجاتهم ، وسبب ذلك أمران : 

أحدهما / تعدد إطلاقات النفس ، 

وثانيهما / تفاوت درجات الناس . 


مرةً تطلق النفس على الشخص بكماله و تمامه من جميع أجزائه و جزئياته ، كما تقول : (أنا بنفسي ذهبتُ ، أنا بنفسي فعلتُ) .


مرةً تطلق و يراد بها الفؤاد ، الذي هو أعلى مشاعر الإنسان .


مرةً تطلق و يراد بها العقل . 


مرةً تطلق و يراد بها النفس الناطقة القدسية .


من جانب آخر يقسم النفس باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) على أربعة أقسام ، حين سأله كميل ابن زياد النخعي عن معرفة نفسه . 

فقال : «يا كميل ، إنما هي أربع ، الناميةُ النباتية و الحسية الحيوانية و الناطقة القدسية و الكلية الإلهية الملكوتية»


وفي تقسيم آخر : النفس الأمارة بالسوء ، النفس اللوامة ، النفس الملهمة ، النفس المطمئنة ، النفس الراضية المرضية ، و النفس الكاملة (هي الناطقة القدسية) .


و الثاني من أسباب كثرة تفاسير الحديث (تفاوت درجات الناس) ، لأن الناس بعدما كمَّلوا القوس النزولي و أخذوا في القوس الصعودي إختلفت فيه مراتبهم ، وتفاوتت درجاتهم ، وفي الواقع هذا هو سبب ذلك الإختلاف المذكور ، لأن تلك الإطلاقات إنما هي على حسب مقامات النفس و مراتبها ، وتلك الأسامي لها باعتبار تطوراتها و ظهوراتها ، فكل أحدٍ حسب ما وجد وصف ، ومقدار ما وصل عرف ، وما منا إلا له مقامٌ معلوم .


فاعلموا أن الأقوال في معاني المعرفة في الحديث الشريف كثيرةٌ جداً ، وفهم المعرفة الكاملة دقيقٌ جداً ، وهو أنه لو قيل كيف جاز أن تكون معرفة النفس عين معرفة الرب ، مع انتفاء المشابهة و المجانسة ، وكيف يصير الحادث دليلاً على القديم ، مع إنه معدومٌ عند جلال قدرته وظهور قهاريته ، (ما الجواب) ؟؟


نقول : قد دلت الأدلة الواضحات (المعرفة علة خلق الخلق) ، {ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي ليعرفون ، لأنها يعني العبادة فرع المعرفة ، وهي أعني معرفة الذات في حقنا ممتنعة قطعاً ، «لأن الطريق إليه مسدود ، و الطلب مردود» ، ولا يمكن إدراكه ، لأن الإدراك لا يمكن إلا أن يحيط المدرِك بالمدرَك ، و القديم تعالى لا يُحاط به {وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .


ولما كان ذلك كذلك وقد قلنا إنه سبحانه ، إنما خلقنا لنعرفه و نوحده و نعبده ، وجب عليه في الحكمة أن يصف لنا نفسة ويعرفنا إياها ، حيث كانت الغاية هي المعرفة و العبادة ، لنعرفه بما وصف به نفسة ونوحده و نعبده ، كذلك لتكمل ثمرة إيجادنا ، وتتم علة انوجادنا ، ولما كان التعريف و التوصيف منحصراً بأحد الشيئين (إما بالمقالي ، إما بالحالي) ، وجب عليه سبحانه بالحكمة أن يصف لنا نفسه و يعرفنا إياها بالبيانين ، لإتمام النعمة للمؤمنين ، ولإتمام حجةٍ على الكافرين . 


و التعريف المقالي معلوم ، هو مدلولات الكتاب التدويني وسنة النبي صلوات الله عليه وآله الطاهرين ، و التعريف الحالي هي ما جعل الله سبحانه في الآفاق و في أنفس الخلائق من صفات توحيده ، ولما كان الحالي أجلى من المقالي لأنه بيانٌ بالكينونية وتعريفٌ بالعينية ، وجب عليه سبحانه بالحكمة أن يخلق في حقائقنا صفةً تنبئ عن كينونيته ، وآيةً تدل على وحدانيته ، لأن الوصف كلما قرب إلى من وصف له يكون أكمل و أبلغ للحجة ، وليس أقرب شيء إلى شيء من نفسه ، فجعل سبحانه تعالى ذواتنا و أنفسنا آياتٍ لتوحيده ، وصفاتٍ لمعرفته ، {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .


ومخلص الكلام في هذا المقام ، أنه تعالى تعرف لنا بنا ، ووصف نفسه لنا بنا ، و أننا لا نتعدى ولا نصل إلى الذات البحت البات ، فهو سبحانه عرّف نفسهُ لنفسنا بنفسنا ، ولهذا أن مراتب التوحيد و المعرفة و العبادة متعددة لإختلاف مراتب الموحدين و العارفين ، فإنه سبحانه يظهر لكل شيءٍ به و يتعرف بقدر قابليته و إستعداده ، ويصف نفسه له بحسب إدراكه ، فالطريق إليه بعدد الأشخاص من جمادٍ و نباتٍ و إنسانٍ إلى غير ذلك من الأنفاس ، إن الطريق إليه بعدد خلقه ، فلا يعرفه أحدٌ إلا بما نقش في لوح حقيقته من صفات توحيده ، وبما أودع في سرِيَّتهِ من آلة تجريده .


نعم ، معرفة النفس الطريق الأمثل إلى معرفة الرب ، ولا ينال شخص بهذه المعرفة إلا أن يسلك سبيل المؤمنين و يتبع شريعة سيد المرسلين أبي القاسم محمد و مذهب آله المعصومين و يرتاض في تصفية نفسه بالعمل بالمستحبات و التجنب من المكروهات و يتخلق بالأخلاق الكريمة ويخالف هواه و يتبع أمر مولاه ، فهناك يصبح ناجحاً ويتسّر له معرفة نفسه ، فيسهل له معرفة ربه ، «من عرف نفسه ، فقد عرف ربه» ، لأن إذا تيسر له معرفة نفسه و يتهيأ لمعرفة العالم الأكبر ، لأنه طبق العالم الأصغر الذي هو وجوده ، «أتزعم أنك جرمٌ صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر»


كما هو صريح قول سيد الموحدين (ع) : «إن الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله على خلقه ، وهي الكتاب الذي كتب الله بيده ، و هي الهيكل الذي بناه بحكمة …» إلى آخر الحديث


وأعظم من معرفة العالم الأصغر ومعرفة العالم الأكبر معرفة الله بسبيل أنبيائه ورسله وعباده الصالحين الذين ظهروا بالصورة البشرية التي هي أكبر حجة لله ، {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} .


قال عليه السلام : «بنا عرف الله ، وبنا عبد الله ، نحن الأدلاء على الله ، ولولانا ما عبد الله» .


نسأل الله تبارك و تعالى بأوليائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين أن ينور قلوبنا بالمعرفة ، أن ينور قلوبنا باليقين ، وأن يبصرنا عيوبنا ، ويوفقنا لتزكية أنفسنا ويرفع عنا حجاب الجهل و العمى وموانع النفس و الهوى ، ويوفقنا لنشر فضائل أهل البيت ومناقبهم و تعريف العلماء ومنهجهم وعقائد مدرستهم الذين جاهدوا في سبيل المعصومين ، خاصةً الشيخ الأوحد أحمد ابن زين الدين الإحسائي المظلوم ، و السيد الأمجد ، وعلمائنا الماضيين منهم جدي الأكبر الحاج الميرزا موسى الحائري الإحقاقي ، و الإمام المصلح والعبد الصالح الميرزا حسن الحائري الإحقاقي ، و عمي الأكبر صاحب الشهادة الثالثة في الكويت المحبوب  آية الله المعظم الميرزا علي الحائري الإحقاقي ، وأبي محيي و مجدد علوم الشيخ الأوحد آية الله المجاهد المظلوم الميرزا عبدالرسول الحائري الإحقاقي ، وسائر العلماء الذين أقروا بالحق ، والعلماء الحاضرين و الفضلاء خاصة أميني معتمدي ورجاي الشيخ عبدالله نجم المزيدي أبو صادق في الكويت ، والأخ المجاهد العالم الشيخ توفيق البوعلي في الإحساء أرض الولاء و الوفاء ، وسائر مشائخنا الأجلاء .


اللهم صل على محمد وآله الطاهرين وعجل فرجهم و ارحمنا بهم و نور قلوبنا بمحبتهم و معرفتهم و معرفة مقاماتهم ووفقنا لطاعتهم وابعدنا عن معصيتهم و اختمنا في ولايتهم وزدنا في محبتهم واحشرنا تحت لوائهم و في زمرتهم بحقهم عليك وبحقك عليهم إنك أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين ، والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته .