المرجع الديني الكبير الإمام المصلح العبد الصالح
الحاج ميرزا حسن الحائري الإحقاقي قدس سره
معرفة النفس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
* سئل المولى المقدس رضوان الله عليه عن معرفة النفس فكان السؤال:-
يروى أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" فما هي معرفة النفس التي بها يعرف الرب عزوجل ، والتي عناها الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه؟
أرجو التفضل علينا بالشرح المفيد ، ولكم وافر الشكر والتقدير.
* فأجاب سماحته:-
الذين قالوا بوحدة الوجود من الحكماء والصوفية ، زعموا أن حقيقة الموجودات أعم من الرب ، والمربوبين ، والخالق والمخلوقين واحد في نفس الأمر ، وإنما اختلفت باختلاف الصور والقابليات.
ومثلوا ذات الرب سبحانه بالماء ، ومختلف الموجودات بالثلج ، فإذا ذاب الثلج وسال رجع إلى أصله وهو الماء.
قال الشاعر مخاطب ربه:
وما الناس في التمثال إلا كثلجة
وأنت لها الماء الذي هو نابع
ولكن بذنوب الثلج يرفع حكمه
ويوضع حكم الماء والأمر واقع
وقال بعضهم: (أنا العابد وأنا المعبود) وقال غيرهم: (أنا غافر ، أنا مذنب) ، وقال عبد الكريم الجيلاني: (إن شئت قلت الحق دائرة جوفها خلق ، وإن شئت قلت الخلق دائرة جوفها حق) ، وهذه العقيدة مخالفة للعقل والشعور المسالم ، ولما جاءنا من السماء من البيان و المعرفة.
وقال بعض الحكماء: (من عرف نفسه إنها مخلوقة ، عرف أن لها خالقاً ، أو عرف نفسه بالعجز والاحتياج ، عرف ربه بالقدرة والغنى) ، وقالوا: (من عرف أن روحه ، أو حقيقته ، في كل موضع من جسده ، وليس في موضع معين ، عرف بأن الله في كل مكان ، ولا يحويه مكان).
ولكن أفضل تفسير لهذه الكلمة الخالدة ، هو إن حقيقة العالم نور خلقه بمشيئة ، ونسبه لنفسه ، وأودع فيه أجمل الصفات ، وجعله مثالاً له في الأفعال ، فنظر إليه بنظرة الرحمة ، فتلألاً ، وتشعشع ، فخلق من أ أشعته الخلائق بأنواعها ومراتبها ، فامتاز كل من الموجودات بصورته التي اختارها بحسب قابليته.
فحقيقة كل مؤمن من شعاع ذلك النور ، فإذا عرف نفسه ، أي حقيقته ، عرف ربه، لأن نفسه مثال لمثال ربه ، قد خص بالصفات الكمالية.
والطرق إلى هذه المعرفة ، رفع الحجب عن وجهها ، وكنس غبار الإنية عنها ، وذلك بالرياضات الشرعية:
كالعمل بالواجبات والتجنب عن المحرمات ، والتلبس بالأخلاق الفاضلة ، والصفات الملكوتية ، والقيام بالمستحبات ، وترك المكروهات ، والإكثار من النوافل ، لأنها موجبات القرب إلى الله ، كما قال سبحانه "لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها" ، والإخلاص في أقواله ، وأعماله ، ومنويّاته ، حتى يغرق في بحر المحبة ، وينسى نفسيته ، وإنيته ، فهناك يعرف نفسه ، ويمثل ربه في الصفات والأفعال ، فمعرفة نفسه في هذه الحالة هي معرفة ربه كما يقول جل وعلا: "عبدي أطعني تكن مثلي ، أنا أقول للشيء كن فيكون ، وأنت تقول للشيء كن فيكون" فذاته عز وجل أجل من أن يعرف فلا يعرف ذاته لا نبي مرسل ولا ملك مقرّب ولا يتصور ولا يشار إليه بل العبد يتصف بالصفات المخلوقة المحبوبة المنسوبة إلى المولى من العدل والكرم والرأفة والرحمة و يعرف بها.
ولهذه المعرفة درجات راجعة إلى اختلاف القابليات ، ومقامات الواصلين ولذا يقول صلى الله عليه وآله: "أعرفكم بنفسه ، أعرفكم بربه" فكل من هو أشد في تصفية نفسه ، في إعراضه عن العلاقات الدنيوية ، والعواطف السلبية فهو أحق بالتجليات الربوبية وأقوى في معرفتها ، مثالها المرآة أما الشمس ، فإن صورة الشمس فيها مثال تجليات الشمس ، فإذا كانت شيشتها صافية ليس عليها غبار فمن رآها فكأنما يرى الشمس وعرفها وليست الشمس في المرآة وليست المرآة عرفت ذات الشمس بل عرفت آثارها من الحرارة والأشعة وله المثل الأعلى في السماوات والأرض: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ} (النور:٣٥).
أقول: وأصفى مرآة في عالم الوجود هي نفس سيد الكائنات وأشرف الموجودات لتلك التجليات فلهذا يقول صلى الله عليه وآله: "من رآني فقد رأى الحق" ومن بعده في الصفاء أخوه وقرينه أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولكمال معرفته ثم يقول: "لو كشف الغطاء ما زددت يقيناً".
ويبرهن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله: "يا علي! ما عرف الله إلا أنا وأنت..." لأن مرآة نفسيهما أصفى المرايا أمام تجليات شمس الحقيقة فليس في مرآة نفسيهما شائبة الكدر ولا ذرة فسبحان ربك رب العزة عما يصفون فسلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.