المرجع الديني الكبير المقدس الحاج
ميرزا علي الحائري الإحقاقي قدس سره
الكلمات المحكمات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي
بأحرفه يظهر المضمر
والحاصل ان في الانسان جميع ما في العالم وهو نموذج العوالم الغيب والشهادة وكل ما خفي في عالم الغيب يرى تفصيله وشرحه في الإنسان وفي الشهادة يستدل به إلى ذلك العالم وليس مختصاً بالإنسان فقط بل في جميع المخلوقات كذلك كل فرد فيه ما في العالم لكن في كل شيء بحسبه ومرتبته ، حتى النباتات والجماد والمعدن ليستدل به أن خالق النملة هو فاطر النخلة وأن صانع البقة هو خالق الفيلة .
غاية ما في الباب أن هذا الإنسان وهو العالم الصغير شرح العالم الأكبر ومثال على ذلك فإن في الأرض ملك ورعايا كذلك في الجسد الإنساني ملك وهو قلبه ورعاياه وهي الأعضاء والجوارح والحواس الخمسة.
وفي الأرض خير وشر ، وفي البدن الإنساني الخير هو العقل ما يصدر عنه العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ، والشر هي النفس الأمّارة وما يصدر منها: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي} وفي الأرض حرب بين الملوك أو غيرهم وتحت الحكم وفي الإنسان قلبه محل الحكم والملكان المحاربان العقل والنفس الأمّارة ولكل منهما جنود كما في بعض الروايات جنود العقل خمسة وسبعون وكذلك جنود النفس خمسة وسبعون كما في الكافي ، وفي كل أمر يبدو للإنسان من خير أو شر يقع الحرب بين هاتين الطائفتين إن كان خيراً فالعقل يطلبه والنفس تمانعه ويقع الحرب بينهما ، فلذا سمي المحراب محراباً لأنه حين إتيان الصلاة وأركانها وأفعالها بحكم العقل وإرشاده فالنفس تحاربه وتدافعه حتى لا يصلي أو لا يأتي بشروطها وأركانها صحيحة كاملة.
وإن أراد شراً بحكم النفس فالعقل يعظه ويعذله وينهاه ، وهكذا سائر الأفعال ، وكذا في العالم نبي وشيطان وفي الجسد الإنساني عقله هو الرسول الباطني ونفسه الأمّارة شيطانه ، وكذا العالم مربوب هو وجميع ما فيه وله رب يربيه ويمدّه ، وفي الإنسان الرب وهو قلبه يربي جميع ظاهره وباطنه وحواسه وقواه وباقي الجسد كله مربوبون له مستمدون منه محتاجون إليه وهو يربي ويمد غافلاً كان الإنسان أو ملتفتاً شاعراً كان أو غير شاعر نائماً كان أو مستيقظاً فتبصر.
وهذا الجرم الصغير فيه جوهر نفيس ثمين وتطبيق شريف متين لا يقاس بجميع ما ذكر بل إنما كلف الإنسان لمعرفة ذلك ، وهو مثال الرب الملقى في هويته وهو آية ربه ولا يظهر إلا بعد كشف جميع سبحاته وإندكاك كل آنياته وهو الذي قال فيه الإمام (عليه السلام): "من عرف نفسه فقد عرف ربّه" وقال (صلى الله عليه وآله ): "أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه" وقد كتب شيخنا الأوحد الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي أعلى الله مقامه رسالة نفيسة شريفة في معرفة النفس أي معرفة معنى قوله: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه" مطبوعة في المجلد الأول من (جوامع الكلم) فراجعه عسى أن تسعد بفهم ما شرحه والواصلون قليل.
والحاصل أنت أيها البشر لقد أودع الله فيك قوة تتمكن من تصفيتها وتكميلها ورفع عمى الجهل عنها بسحق العبودية بصلابة الآداب الشرعية والأخلاق الروحانية والحقائق الإلهية حتى تنعم أجزاؤها وتتلطف وتصفي بتكرار الحل والعقد حتي تزول عنها غرائب الأرض وعوارض الأكدار.
ويكشف عن عين بصيرتك وفؤادك جميع السبحات وترفع عنها الأغشية والأستار والموهومات ، فيكون قلبك نورانياً ومرآتك صافية وبصرك حديد ، ويظهر فيك المثال الملقى في هويتك وتصل إلى المعرفة الحقيقية ، فهناك ترى حقيقة بعض الأشياء وتشاهد في البعض ما تشاهد في الـكـل وانطواء الكل في البعض ، وتحيط على حسب مقامك بالعلوم الظاهرة والباطنة إحاطة لدنيّة لا كسبية.
وهذا هو الدواء الذي عناه الإمام (عليه السلام) في قوله:
دواؤك فيك وما تشعر
وداؤك منك فلا تبصر
فداؤك هو الجهل وتكاثر السبحات والأغشية على بصيرتك بتسليط النفس الأمّارة على عقلك والخروج عن طاعته وطاعة ساداتك وأئمتك ( عليهم السلام) حتى لا تكاد تبصر شيئاً من الحق كما قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها} الحقائق والعلوم {وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها} الحق وطريق النجاة ولا يرون الآيات في الآفاق والأنفس ولا يدركون العبر على كثرتها {وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها} المواعظ المفيدة والأدوية النافعة ، وداؤك يا حبيبي هو الذي مرّ عليك قبلاً فبادر باستعماله قبل موت حقيقتك وعدم نفع الدواء فيك.
*إعداد: الحاج فاضل العرادي