المرجع الديني الكبير الإمام المصلح العبد الصالح
الحاج ميرزا حسن الحائري الإحقاقي قدس سره
مولد النور
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً . وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً} (الأحزاب:٤٥-٤٦) صدق الله العلي العظيم
خصت هذه الآية الكريمة رسول الله (صلى الله عليه و آله) بألقاب عالية وسامية من جملتها (سراجا منيرا) ، فوجود النبي منذ ولادته إلى آخر الدنيا نور وسراج يستضاء به وعلى اختلاف الروايات في يوم مولد النبي بين الثاني عشر من ربيع الأول والتي يعمل بها علماء النجف ويزورون فيه امير المؤمنين (ع) كما اشتهر كذلك عند اهل السنة ، والأشهر عند الشيعه هو السابع عشر من ربيع الأول.
* تاريخ الولادة:-
هذا هو يوم ولادته الظاهريه وواقعا فمولده الشريف كان في أول عالم الوجود حيث لم يكن شمساً ولا قمر ولا أرضاً ولا سماء بل ولا ميكائيل ولا إسرافيل ولا عزرائيل ولا الأنبياء ولا المرسلين فكان كما قال (صلى الله عليه و آله): "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر" وهذا الحديث معتبر عند علماء السنة والشيعة.
و عندنا أحاديث كثيرة "أول ما خلق الله اللوح" ، "أول ما خلق الله القلم" ، "أول ما خلق الله الروح" ، "روح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة" ، هذه الأسماء من اللوح والقلم والروح هي حقائق رسول الله (صلى الله عليه و آله) فهو العقل الكلي وهو النور الكلي بل وكل ما نتصوره من الأنوار في السماء والأرض وفي مختلف الوجودات كلها من شعاع نوره صلى الله عليه وآله وسلم ، ولذا اشتق الله تبارك وتعالى لنبيه وحبيبه من نور عظمته وما نور العظمة إلا حقيقة محمد وأهل بيته عليهم السلام في ذلك العالم الأول دون غيرهم.
* مكان ولادته:-
ولا بد لهذه الأنوار من مسكن ووطن تسبح فيه فخلق الله لهم عالم الأنوار فكان مولد رسول الله فيه ، وليس لأحد الدخول في ذلك المسكن وذلك المولد إلا هو وأهل بيته وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، أظهر الله تبارك وتعالى هذا السر في المعراج حيث عرج بجسمه وروحه وجميع موجوداته حتى ملابسه الظاهرة وعمامته الشريفة بل أتاه النداء من الجليل بتشريف العرش بنعليه الكريمتين لأن كل ما نراه في رسول الله حتى الملبس الذي هو من القطن عندما لمس وجوده وبدنه الشريف صار شريفاً أيضا وهذا دليل على دخوله في مسكنه.
وعندما وصل إلى مكان أثناء معراجه قال (صلى الله عليه و آله): "فزخني في النور زخاً" دلالة على توقف جبرائيل (ع) عن التقدم كما يقول: "لو اقتربت أنملة لاحترقت" وهذا مقام النور الصرف وهو نور أبا القاسم محمد (صلى الله عليه و آله) فأصبح في ذلك المسكن يرى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين (ع) يرافقه ويصاحبه في جميع المراتب والمقامات إلى أن قال تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} (النجم:٨-٩).
وعلة هذه الولادة وظهوره باللباس البشري حتى يستفيد الأنس والجن والحيوانات وجميع الموجودات من وجوده الشريف كقوله تعالى: {وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} (الأنعام:٩).
* مصدر النور في الإنسان:-
ولنا مثال في الصخرة الصماء عندما تضربها بالحديد فإذا بها تدفع نوراً وضياءاً وهذا دليل على أن في كل شئ نور لأن النور أساس ونطفة الوجود ، فالنور في كل مكان وفي كل عنصر وفي كل نوع من أنواع الوجود وأفضله وأعلاه في الإنسان وهو أنــور المخلوقات ، وكان نور جسد الرسول وآل بيته (ع) هو المصدر لهذا النور الذي خلق منه الأنبياء ومن شعاع نور الأنبياء خلق الإنسان ومن شعاع نور الإنسان خلق الجن ومن شعاع نور الجن خلق الملائكة ومن شعاع نور الملائكة خلق الحيوان ومن شعاع نور الحيوان خلق الجماد كما في الطبقات في السلسلة الطولية (الأنبياء - مؤمنين الأنس - مؤمنين الجن - الملائكة - الحيوان - النبات - الجماد).
* مركز النور في سائر المخلوقات:-
للمؤمن نور باطني ونور ظاهري وهذا النور الظاهري موجود حتى في الحيوان والجماد ومركزه المخ والمخيخ والنخاع والنخاع الشوكي والعمدة هو مخ الإنسان وبه يرى ويبصر ويسمع ويميز الروائح ويحدد المادة الملموسة وما العين والأذن والأنف واليد إلا واسطة وآله تجسم نور المخ فالبصر يصل إلى ملايين الكيلومترات ويمتد إلى السماء والأرض ولولا النور ما كانت الرؤية ، والعقل الكلي هو النور الكامل والعقول كلها أنوار مخلوقة من شعاع أنوارهم عليهم السلام.
* النور الباطني {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}:-
أما النور الباطني فهو النور الحقيقي والأنوار الحقيقية في الإنسان مركزها حب أهل البيت عليهم السلام فالله تبارك وتعالى يحبهم ويحبونه ومظهر محبة الله تعالى هو مولانا أبا القاسم محمد (صلى الله عليه و آله) حبه وحب أهل بيته هو النور الحقيقي ثم من هذا الحب تتفرع وتتشعشع الأخلاق الحميدة الكرم والرأفة والرحمة والعدل وخدمة المؤمنين وخدمة الدين كلها أنوار وهدى للإنسان.
* نور المؤمن:-
في يوم القيامة نرى أن الأنوار تتشعشع فالمؤمن الكريم والرؤوف والمجاهد في سبيل الله والعادل يظهرون بصورة نورانية {نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا} (التحريم:٨) بل وحتى الجنة تتشعشع بنور المؤمن فنور المؤمن يغلب على نور الجنة ونور الحور العين و الغلمان.
الكثير من الناس يعتقد أن الدنيا لهو ونوم ولعب وشهوة ، كحال تلك المرأة الغنية المشغولة بالدنيا حلالها وحرامها ونصحناها أن تتوجه إلى الآخرة بالأعمال الخيرية وأداء الواجبات من زكاة وخمس و زيارة العتبات المقدسة…
فقالت إني أعيش مرة واحدة فقط لهذا يجب أن أتمتع بهذه الدنيا ، هنا الشيطان يفسر الحق بالباطل وهذه المرة الواحدة التي يعيشها الإنسان يجب أن يستعد للآخرة وأن تتمتع من الدنيا للآخرة حيث الدنيا هي رأس مال الآخرة {قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} (المؤمنون:٩٩-١٠٠) يطلب الرجوع لأنه لم يدخر من الدنيا للآخرة وللبرزخ وللقيامة ، نعم نحتاج الدنيا للمعاش والمعيشة {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف:٣٢).
من محاضرات الإمام المصلح (قدس سره) ٧ شوال ١٤٠٤هـ
ً