وانقضى شهر الله

سماحة الحكيم الالهي والفقيه الرباني المولى

 ميرزا عبد الله الحائري الأحقاقي حفظه الله


وانقضى شهر الله ..


بسم الله الرحمن الرحيم


 اللهم صل على محمد وآل محمد


حيث كنا نرتع في ضيافة الرحمن بعد طول وقوف على الباب ننتظر الإذن بالدخول ، وفي شهر رمضان انفتحت أبواب الخير و استضافنا الجليل تحت كساء الرحمة والمغفرة والتوبة ليبني داخل كل واحد منا الإنسان الكامل، وذلك عن طريق منهج سماوي وتربية إلهية دامت شهرا روحانيا بما فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.


فالدين الإسلامي فيه الكثير من الأسرار والحكم والعلاجات التي حتماً يحتاجها ذلك الإنسان الذي نزل إلى الأرض بقصد الخلافة وتنفيذ مشيئة الله وإرادته ، والصيام من أعظم الدروس التي تخلق إنساناً جديداً كاملاً كما أراده الله تعالى فلا بد أن تجد نفسك بعد شهر من التربية الخاصة جداً والتأدب في محضر الجليل وقد لبست لباس التقوى { وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} وهذا اللباس يحمل في طياته أبهى الحلل من الشكر لله والتوبة والمحبة ، والأعظم من كل هذا هو الوقوف على العبودية المطلقة الخالصة لله تعالى التي تعطي للعبد قيمة ومعنى ورتبة لا يشاركه فيها أحد من الخلق .


و هذا الأمر لا يكون إلا بالعودة إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها التي تجعل الإنسان لا جزوعاً ولا هلوعاً ولا مانعاً ، و إنما صبوراً كريماً و سخياً ، و ليس من طريق أفضل من العبادات حتى تغلب الفطرة على الطبيعة فتتذكر العهود و المواثيق التي عانت في عالم الذر .


كل الخطايا تأتي من توجهك لرغباتك وشهواتك فتغفل عن جهة عقلك وهي جهة النور ، فتحجب عن مشاهدة جمال رب العالمين بما حملت نفسك من الموهومات من حب الدنيا والشهوة وحب النفس وحجبت بكل صنم يشترك مع الله في قلبك .. وكل إنسان يعلم أصنامه جيداً ، في حين أنك مأمور بالخروج من شباك هذه الدنيا الدنية و الصعود عروجاً إلى حيث مبدأك النوراني ، و هذا لا يكون إلا إذا اتخذت من الآية الشريفة قاعدة يومية لتعاملاتك مع الدنيا : { وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } .


وما علينا إلا أن نفهم قلوبنا معنى الكمالي الجمال الحقيقي ، و أنه لا كامل على الإطلاق سوى الله ، و لسان حالنا يقول : { قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } فهو جمال بلا عيب و كمال بلا نقص و خير بلا شر و نور بلا ظلمة ، و ليس لموجود كمال ولا جمال ولا نور ولا بهاء إلا بجماله سبحانه و الذي محل تجليه الوجود الأقدس لمحمدٍ و آل محمد (ص) .


نحن كبشر لنا وجهان فطيران : وجه النفور من النقص و الناقص ، ووجه العشق للكمال و الكامل ، و هذا الأمر قد لا يكون ظاهراً و يختلف من شخص لآخر بحسب تشخيصه للكمال و النقص و لكن يظل نور الفطرة يهدي إلى  الكمال ويدعو للتوجه إلى الكامل الذي بدأ به الجليل خلقه وافتتح الوجود به لأنه الأشرف على الإطلاق "بكم فتح الله وبكم يختم" فيتعلق وجودنا بهم عليهم السلام في كل خطوة تخطوها وفي كل نفس نتنفسه.


فكل ما كلفت به من عبادات هو دعوة للعودة إلى الفطرة المستنيرة ، فتصير إنساناً جديداً ، وإذا أخلصت النية وجردت القلب عن كل متعلقاتها وصلت إلى عالي الدرجات بتمام المعرفة واليقين "أعبد الله حتى يأتيك اليقين"


ولكن ، وبعدما انقضت هذه السفرة الروحية عليك أن تحذر من أن تفقد المقامات العلية التي جنيتها بكرم من ذلك المضيف الرحيم وبمن من الله تعالى ، فتمسك بذلك الإنسان الجديد المخلوق في محضر الله عز وجل.. ذلك الإنسان الكامل صاحب الروح القوية والعقل النوراني البعيد عن الشهوات والدنيا والنفس ، واحذر أن تطلق العنان لنفسك بعد أن حبستها في سجن الإنابة والتوبة.. وبعد أن أدبتها بسياط الخشوع والرهبة ، فلا تقبل بها سيداً لوجودك ، فالإنسان أجل وأشرف من ينغمس في رذائل وقذارات هذه النفس المظلمة .


لقد زرعت في مثل هذا الشهر العظيم رياض غناء من التقوى ، و رفعت الكثير من الموانع و الحجب فتطورت ظاهراً و باطناً و صرت مؤهلا للقرب و الوصل ، فلا تلوث نفسك بالمعاصي من جديد … ولا تلقي على عقلك و روحك حجابا تحرمك من الدخول ثانية إلى حضيرة القدس بعدما كنت معه في مقام الأنس المحبة ، فسمعت النداء الإلهي من جانب الطور الأيمن : {وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى} فتلذذت بمناجاة الحبيب … و شربت أنوار المحبة … و تنفست روايح الجنة … فهل تختار على الجنة شيء ؟؟