سماحة الحكيم الإلهي و الفقيه الرباني المولى
ميرزا عبدالله الحائري الإحقاقي حفظه الله
أسرار الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
يقول تعالى في محكم التنزيل : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وقال الرسول الأعظم (ص) : «أصل الإسلام الصلاة وفرعه الزكاة و ذروته الصيام و سنامه الجهاد» .
في الحديث السابق يذكر الرسول الأعظم (ص) أن الصيام ذروة الإسلام ، أي أنه يمثل القمة ، فإلى جانب أن للصائم أجر صبره على الجوع والعطش واجتناب الشهوات وهو نوع من التدريب الإلهي لعبده على شدائد الآخرة ، لأن كل ما في الدنيا فهو إشارة إلى ما سيحصل في الآخرة ، وهذا سيظهر واضحاً في يوم القيامة ، لأن فيه إمساك تام عن جميع شهوات النفس لأننا بين يدي العزيز الجبار ، فنكون في أعلى حالات الفقر والذلة .
كذلك فإن الصيام يعطي إحساس بالذلة والاستكانة والخشوع والفقر عند الصائم وهذه أول مراتب العبودية و التقرب إلى الله عز وجل ، فإذا أردنا أن نحصل على أعظم النتائج من هذا الصيام ليكون هذا الصوم حجاباً مانعاً من عذاب الآخرة ، يجب أن نتبع الطريقة التي ذكرها أهل البيت في مطاوي أحاديثهم.
نبدأ الصيام بنية الكف عن الشهوات ، و قطع جميع الخيوط التي تربطنا بالشيطان ، ولكن يجب الالتفات إلى أن الهدف الأساسي هو الوصول إلى الطهارة الباطنية ، فكل ما التزم به ظاهراً يجب أن ينعكس على الباطن ، فإذا منعت نفسي عن الطعام والشراب والشهوات بنية الصيام ، و ارتقي إلى أن أرى نفسي كالمريض الذي لا يشتهي طعاماً ولا شراباً ولا أي من شهوات الدنيا لأنني أرغب في الشفاء من المرض ، فكذلك الباطن .. يجب أن يمتنع عن كل توجه إلا لله عز وجل ، وينقطع انقطاعاً خالصاً لوجه الله لأن هذا شهر الله فوجب الكف والإمساك عن كل ما سواه ، وكما أنك في كل لحظة توقظ قلبك ونفسك وشعورك كي لا تنسى وتمتد يدك إلى نوع من الطعام والشراب ، فاجعل قلبك ونفسك وعقلك في حال من اليقظة كي لا يعمل ولو للحظة ويلتفت إلى ما سوى الله ، فتحس بحرارة الشوق للقاء المحبوب وهو الله كما أحسست بحرارة العطش و الظمأ .
والصيام كان نوع من العلاج الذي فرضه الطبيب وهو الله على مرضاه وهم نحن الذين أثقلتنا الذنوب والكدورات ، فكثرت الحجب بيننا وبين ربنا فلم نعد نر جمال المحبوب الحقيقي إلا من خلال هذه النفس الثقيلة مثل الزجاج المغشى بالأصباغ الكثيفة ، فالموالي فرع لهم وهو مخلوق من فاضل طينتهم فهو نور بحت ، ولكن ما عرض عليه من ذنوب و غفلة و غيرها أعطت هذا النور شيء من الظلمة كالصبغ الذي على الزجاج متى ما أزيل هذا الصبغ رجع الزجاج كما كان شفافاً لامعاً يمر من خلاله النور كأحسن ما يكون ، فلكي يوصلنا الجليل إلى مرحلة الشفافية بإزالة الكدورات ورفع الذنوب التي عملت عمل الصبغ و أعظم هذه الذنوب هي الغفلة الإعراض عن معرفة مقامات ومراتب أهل العصمة عليهم السلام والمراد بها الحكمة ، ففرض علينا الصيام ، و أرادنا أن نتفكر في عظمة هذا الشهر الذي تظهر فيه عظمة الله تعالى وسلطانه وقدرته ، وكيف ذلك ؟؟ اعلم أنه من العوالم الأولى كان هذا الشهر عظيماً ، فبدء وقوف الخلائق بين يدي الله في عالم الذر كان في هذا الشهر، حيث عرضت الخلائق على الله فألقى عليها التكليف بتوحيد الله و نبوة النبي (ص) وولاية الأئمة (ع) ، فتم تقدير الآجال من طول العمر وقصره ، وتم تقدير الأرزاق و تم تقدير أن هذا الإنسان شقي أم سعيد و غيرها على حسب جواب كل مخلوق على حدة .
هذا التقدير تم في الثلث الأخير من ذلك اليوم من عالم الذر ، لذلك كان التقدير في الثلث الأخير من هذا الشهر وهي ليالي القدر التي بها تتنزل الملائكة على الإمام مفترض الطاعة ليقدر آجال العباد وأرزاقهم في هذا اليوم على حسب ما يرد عليه من أعمالهم ، وهو قوله : {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ، فكل أمر يعرض في هذا اليوم على صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) .
وعين ما حصل في عالم الذر ويحصل في الدنيا يحصل يوم القيامة ، وهو قوله تعالى : {وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} وهو يوم قيام القائم و يوم الرجعة ويوم القيامة ، وهو ظاهراً شهر رجب و شهر شعبان و شهر رمضان ، وهو نهاية النهايات وغاية الغايات لكل العوالم فإن الله تعالى يقول في محكم التنزيل : {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} فكل الأشهر والأيام لله فلماذا يقول يومئذ ، إنه يقصد شهر رمضان ، وذلك لأنه الأصل وباقي الشهور قشور بالنسبة لهذا الشهر ، فالدنيا محل الظواهر والقشور ، و أما الآخرة فهي محل الحقائق ، وكل مخلوق سيرى كل شيء على حقيقته في يوم القيامة ، كما قال تعالى {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي أننا نرى ما لم نكن نراه في الحياة الدنيا ، ففي الثلث الأول من يوم القيامة يحشر الناس ، وفي الثلث الثاني يعرضون للحساب على ولي الله الأعظم ، وبعدها في الثلث الأخير من ذلك اليوم العظيم تقدر للكل منازلهم على حسب عمله ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، يعني عين ما يحصل في الدنيا وما حصل في عالم الذر فإنه يحصل في يوم القيامة .
وكما أن شهر رمضان بعده عيد فإنه في يوم القيامة يكون العيد للمؤمنين بدخول الجنة و يكون أوله في مقام الكثيَّب الأحمر ، ثم مقام الرفرف الأخضر ثم مقام أرض الزعفران ثم مقام الأعراف ، إلى أن يصل أعلى المقامات التي لا نهاية لها وهو مقام الرضوان الذي قال فيه يقول الجليل {وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} .
وقد فرض الصيام ثلاثين يوماً ، فقد قال النبي الأعظم : «أن سيدنا آدم لما أكل من الشجرة المحرمة ونزل إلى الأرض بقي في بطنه مقدار ثلاثين يوماً مما أكل ، فأمره الله بالصيام ثلاثين يوماً لتذهب كدورة هذا الذنب ، وبذلك صار فرضاً على كل ابن آدم» .
فبالجوع تخف الأجساد وبالعطش تنشف فيذهب عنها الكسل و الرغبة في النوم ، لأن كثرة النوم تورث الندم يوم لا ينفع الندم لأنها تدع الإنسان فقيراً يوم القيامة ، فإذا أثقل الإنسان بالطعام يشعر بالرغبة بالنوم وهذا يمنعه من التهجد ، من التوسل ، من الدعاء في السحر وقد يحرمه حتى من صلاة الليل ، كما أن الصيام يعني حرمان هذا الجسد مما يحب ، ومطالب الجسد لا تأتي إلا من النفس الأمارة ، فإذا امتنعت عما تطلب فإنك بذلك تكسر هذه النفس فتقوى الروح على الجسد ، وقد قالوا (ع) : «الجوع إدام الروح» ، فبالجوع يزداد الفهم و الحفظ و يخف الجسد لفعل الطاعات وقد ورد عنهم (ع) : «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع و العطش …» .
وأما الهدف الحقيقي للصيام فهو المتجلي بقول أمير المؤمنين (ع) : «أنا الصيام» .
فالهدف من أي عبادة ومنها الصيام هو انجلاء الحجب وانكشاف المعلوم وهو إظهار حقيقة الولي التي أراد الله أن تكون في كل شيء من مخلوقاته ومنها العبادات .
لأن الولي هو المثل الأعلى و هيكل التوحيد و شجرة طوبى والآية العظمى لله .
فخلاصة الأمر أن نقابل جميع شهواتنا التي تمثل أكبر حجاب بيننا وبين ربنا بإشراق شمس العناية المحمدية العلوية ليحترق وجودنا بذلك النور ، فنتطهر من جميع الرذائل ، فلا نرى نور إلا نورهم ولا نسمع صوت إلا صوتهم عليهم صلوات الله وسلامه .