الهجرة إلى الله

سماحة الحكيم الإلٰهي والفقيه الرباني المولىٰ

 ميرزا عبد الله الحائري الأحقاقي حفظه الله


الهجرة إلى الله 


بسم الله الرحمن الرحيم


اللهم صلّ على محمدٍ وآل محمد


{وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (النساء:١٠٠)


يقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): “إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم فألزمهم عبادته وكلفهم طاعته غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم” .


العبادات… أفضل طريق يعود بالمخلوق إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فتعيش في رحاب الجليل و تتربى تربية خاصة تخلق منك إنساناََ كاملاً كما أراده الله عز و جل ، و في هذا الشهر يفتح الرحمن أبوابه باسم الحج للضيافة ، و لكل من عزم على قطع طريق العودة و العروج من بيت الله الحرام إلى البيت المعمور و منه إلى العرش ، أرواحاََ تطوف مع صفوف الملائكة … تسبح … تمجد … تهلل … تكبر مع الملأ الأعلى ، تلبية لدعوة الداعي متذكرين العهود و المواثيق التي قطعوها على أنفسهم في عالم الذر .


{وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} في هذه الأيام القليلة تتوجه بكلك إلى حيث النور طائفاََ حول الحقيقة تسمع بأذن وجودك مضيفك العظيم يناديك {وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى} يهتز وجودك لسماع هذا النداء الملكوتي فيتوجب عليك الاستئذان للدخول على السلطان بوقوفك بالميقات متذكراََ ميقات موسى {فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وهو منتهى الاتصال مع الله عز و جل ، و لكن بشرط {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} أي اترك الشهوة و الغضب ، و بذلك تكون تركت كل متعلقات الدنيا ، فالوقوف في الميقات بلبس الإحرام يعطي إحساس بالتساوي و انعدام الفوارق و التوحد مع الخلق الذي تجمعه صفات الفقر و العجز و الفاقة أمام الملك الجبار ، فتعقد النية على أن تقدم بين يديه قلباََ سليماََ {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ليس عندك رأس مال تستثمره بعدما ترجع الأمانات إلى أهلها ، قلبك أمانة ... روحك أمانة … وجودك أمانة ، و قد حان وقت إرجاع الأمانات فتلبي في الظاهر بقولك (لبيك اللهم لبيك) و أما في الباطن فأنت ناظر إلى رحمته اعتماداً على قوله عز و جل: {وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} ، فهو الكريم الرحيم الذي ينفق كيف يشاء على من يشاء ولا تنفد خزائنه ، ولكن اعلم أنك على خطر عظيم حيث تكون النية و التلبية و الإحرام معاً ، فعين الله تعالى ناظرة إلى قلبك قبل لسانك و ثوبك ، فأنت تقصد الحرم و عرفات و منى ظاهراً و تقصد صاحب الدار باطناً الذي هو روح عرفات و منى و روح البيت الحرام .


و تذكر أنك تريد أن تحظى بمقام الاصطفاء ، فتأدب بالآداب الإلهية المحمدية العلوية حتى تكون لائقاً بالخدمة و باللقاء بصاحب الدار ، فلا تغفل عن مضيفك لحظة {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، و يبقى أمام عينيك هذا الهدف العظيم فتجاهد فاراً إلى صحراء عرفات قاصداً إلقاء ذنوبك و كدوراتك بعيداً عن حرم الله ، لأنك تعلم أن كل الخطايا تتأتى من التفاتك لرغباتك و شهواتك و هذا يعني الغفلة عن جهة النور ، فامتثل أيها المريض لأوامر الطبيب لتحصل على الشفاء وقد أمرك الجليل أن تنتقل إلى أرض منى ... أرض الابتلاءات تسليماً منك بالبلاء الذي يقدره الله عليك ، و لكنك لن تتحمل البلاء إلا بعدما تذبح رغبتك في الدنيا و حبك لنفسك ذبحك للهدي ، و ترمي كل ما فيك من نظر إلى نفسك رميك للجمرات ، لتعود إنساناً جديداً قد غبت عن وجودك لأن وجودك ذنب لا يقاس به ذنب في مقابل وجود العظيم و هيبته و كبرياءه و جلاله و جماله ، فيلبسك بكرمه حلة العبودية الخالصة لله تعالى فلا ترى نور إلا نوره ولا تسمع صوت إلا صوته .


فهذا السفر روحي قبل أن يكون سفر جسدي ، تنوي فيه اللقاء مع وجه الله ، و هذا لا يتسنى لك إلا مرة واحدة كل عام ، فاجتهد أن تحصل على خلاصة الحج و تصل إلى الهدف و الغاية ، فتندك في أنوار قطب الوجود الذي أشار إليه الجليل صراحة لمن كان له قلب بأن جعله أول و آخر مولود يولد في الكعبة ، فتتوجه إلى محل ظهور يد الله و قدرة الله ... تتوجه إلى اسم الله الرضي ووجهه المضي و جنبه العلي ... تتوجه بكلك إلى محل إشراق أنوار مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) .


هذا و صل اللهم على محمدٍ و آله الطيبين الطاهرين .