سماحة الحكيم الإلٰهي والفقيه الرباني المولىٰ
ميرزا عبد الله الحائري الأحقاقي حفظه الله
واصطنعتك لنفسي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على محمدٍ وآل محمد
يقول تعالى في محكم التنزيل : {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ} (الملك:٣)
لما كان الله سبحانه وتعالى أحد متفرد بالوحدانية لم يرد أن يكون مبدأ الكون زوجاً لأنه الآية والمثال الدال على وحدانية الله تعالى ، فآدم هو تمام ظهور الكمال في مرتبة التفصيل من الأصل الأول الذي هو الواحد ، فكان لابد من مظهر للوحدانية ، فهو أول من ظهرت فيه آثار الألوهية وشئونات الرحمانية ، فلولا الظهور امتنع الظاهر والمظهر كالخالق ، فإنه لو لم يكن الخلق لما ظهرت منه الخالقية ، وصاحب العقيدة الحقة لا يوقع الظهورات والأفعال على الذات لأن الذات لا تظهر بأي حال من الأحوال ، فهي الكنز المخفي وغيب الغيوب واللا تعين ، والخلق صفاته التي لا تتقوم إلا بمعنى من معاني ذاته ، وهذه المعاني مخلوقة له .. حادثة و ليست قديمة كما قال الكاظم (ع) "ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه" .
و قد كلفك الخالق بمعرفته من خلال معرفة أسمائه و أفعاله و صفاته ، فأحاله إلى الآثار و الآيات التي هي مخلوقة مثلك ، و أودع فيك ما يعينك على هذه المعرفة وهو العقل .. ذلك الوزير المخلص الذي هو وجه الفؤاد المنقطع دائماََ إلى ربه و المقابل بكله لفوارق النور .. فلا يعرف إلا النور ولا يلتفت لحظة إلى ما سواه ، وهو في كل حال من أحواله و في كل طور من أطواره ملبياََ لنداء الرب {وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}(طه:٤١) ، فوجب أن يكون كل ما فيك تابع له حتى رتبة البشرية الظاهرة و هذا الجسد ، فلا تلتفت إلى ما سوى الله و يكون مظهراََ للعبودية فلا يدّعي الاستقلال و الربوبية بحال {وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (الأنبياء:٢٩) فيكون عبداََ بحق ، و العبد لا يخالف سيده و إن خالفه فإنه حين المخالفة لا يرى نفسه عبداََ ، و كيف يجرؤ على المخالفة من علم أن كل شيء راجع إليه ، و كل شيء عنده كالنقطة في الدائرة و هو المحيط بكل جهات العبد و أطواره و أكواره و أحواله {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:٥٣) .
ولكن يبق الاختيار الذي استلزم الخلط بين الطينتين .. الطينة التي سقاها بالماء العذب و الطينة التي سقاها بالماء الملح الأجاج ، فظهرت قابليات الخلق على قسمين :
- قابلية هيكل الشرك وهو الهيكل الناظر إلى نفسه الظاهر بصورة الغضب ،
- و قابلية توافق هيكل التوحيد الذي هو رحمته تعالى ، و تلك الجهة العليا من خلقته ووجهه تعالى في خلقه ، وجهة التعرف والتعريف ومقام الهوية والمثال الظاهر له به ، فهي ظهور نور المبين الذي هو النور المحمدي على مثاله للمبين له، فهو ذات العبد المردودة إليه ومقام فيض العالي في الداني حيث (لا فصل ولا وصل) ، ونقطة محبته التي أراد عبده أن يستدير عليها ، وهذا لا يكون إلا بانقطاع النظر إلى المبدأ والقيام بأوامره واجتناب نواهيه وإجراء سائر أحكامه مستشفعاً بخضوعه وخشوعه وذله وفقره ومسكنته ، فيبين عمن سواه من الخلق لانقطاعه لمولاه وطلب قربه ووصله فالصلاة التي هي عمود الدين فيها إشارات ، فقيامها إشارة إلى قيام العبد بخدمة مولاه وامتثال أمره ونهيه ، وركوعها يشير إلى الخضوع والخشوع والذل والمسكنة لأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، وأما السجود فيشير إلى مقام الدنو بعد البينونة عن الخلق والانقطاع له والفناء في ذكره تعالى والاضمحلال عند جلال عظمته ، ولكن قد يخفى على العوام من الناس ما في هذه العبادة العظيمة من استدارة على كعبة وجودهم وهو المعبود الحق والمبدأ الفياض إلا لمن اختصهم بعناياته وكشف لهم أسرار ما صنع .. ففتح لهم الباب وأذن لهم النواب ولم يمنعه البواب فاستمر لهم الفيض الذي لا انقطاع له وعلموا أن حقيقة الصلاة هى الاستدارة على ما ظهر لهم بهم من أنوار الولي .
فإذا وصل العبد إلى مقام السكون و الاستقامة و الاطمئنان بعد قطع المقامات السافلة ووصل إلى المنزل الحقيقي وهو الوطن الذي حبه إيمان وبغضه كفر ، صار في كل لحظة يطوف حول عرش الرحمن مع الملائكة المقربين ، فحال قلبه حال الطائف حول بيت الله الحرام والتي هي صورة رسمها الجليل بما يتناسب مع هذا العالم .. عالم الأجسام ، فكان لابد لهذا الجسم الظاهري أن يطوف حول جسم ظاهري ولكن الحقيقة أعظم و أعظم .. فهو تعالى لم يكلفك تعالى بكافة التكاليف (ومنها حج بيته الحرام) إلا كوسيلة لتصفية القابليات وإظهار نور الكينونة التي يجب أن تطوف في كل لحظة حول أنوار الجلال و الجمال ، فيكون الكل ألسنة و تراجمة لما نطق به محمد وآل محمد (صلى الله عليه و آله) من العالم الأول
{وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ} (الكهف:١٨) .