أرضيتم بالحيوه الدنيا

سماحة الحكيم الإلهي و الفقيه الرباني الحاج ميرزا
 عبدالله الحائري الإحقاقي حفظه الله 

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد و آل محمد

قال تعالى : {ما لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرضِ أَرَضيتُمْ بِالْحَيَوةِ الدُّنْيا مِنْ الْآخِرَةِ} التوبة ٣٨ 


أرضيتم بالحيوة الدنيا

لما كان الإنسان هو المخلوق الأكرم على خالقه وهبه الإختيار ، و هذا الاختيار هو عين الاختبار فاستلزم ذلك أن يكون الإنسان مركباً و خليطاً من النور و الظلمة .. من الخير و الشر حتى يستأهل الثواب و العقاب ، فالموجودات ما ظهرت ولا وجدت إلا بجهة من الله وجهة من نفسها ، و لأن جهة النور هي جهتة من ربه آخذة المدد من الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت و فرعها في  السماء و هي الشجرة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن فعلها الخير و يعينها على ذلك ملائكة لا تعد ولا تحصى ، و يضادها في ذلك جهته من نفسه آخذه المدد من الشجرة الخبيثة التي ما لها من قرار .. شجرة بني أمية ، فلا تفعل ولا تدعو إلا للشر ، فلو أنك أشرفت ببصر فؤادك على الحقايق لوجدت أن هذه الشجرة ليست بشيء بحقيقة الشيئية و أنك أشرفت على غير ثابت و لملئت خوفاً لأنك اعتمدت على غير شيء و طلبت الإرتواء من السراب و التجأت إلى غير رب الأرباب {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا} (الكهف ١٨) ، فتولي فراراً مما ليس بشيء إلى الشيء الثابت الذي هو المفزع ، و هو وليه و حجته على عباده (ع) و هاتان الجهتان متعاكستان في التوجه و الفعل ، فإذا سكتت جهتك من ربك نطقت جهتك من نفسك ، و إذا تحركت جهتك من ربك سكنت جهتك من نفسك ، و تجري الأحوال بين الجهتين على أساس من التضاد ، فرضا الأولى يعني غضب الثانية و العكس بالعكس ، و اختيار العبد يؤثر على الجهتين ، فإذا فعل العبد الطاعة قويت جهته من ربه و لكن ذلك لا يؤثر على جهته من نفسه ، و إذا ترك الطاعة فإن جهته من ربه تضعف ولكن جهته من نفسه لا تقوي ، و أما إذا فعل المعصية فإن جهته من نفسه تقوى و جهته من ربه تضعف فيكون الأثر مضاعف ، لذا كان الأجر على عمل الطاعة بثلاثمائة و الأجر على ترك المعصية بستمائة . 

و الوصول إلى رضا الرب يحتاج إلى مجاهدة تصل إلى شق الأنفس كما أعلمهم نبيهم في معنى الآية الشريفة {وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} (النحل ٧)        

أي أن  النجائب الميتة لا تحملكم إليّ و إلى مدائن الزلفي و إنما تحملكم النجائب الحية ، و التي تكون بعد إماتة نفوسكم و إلقائها ، فإنها تحيى و تحملكم إلى مقامات القرب و الزلفى ، لإن حياتها من فيضه ، و كيف تقبل فيضه و هي ميتة ؟ فإذا أحيوها بأماتتها و قتلها بعد خلع نعلي الشهوة و الغضب لم تكن لهم إرادة إلا إرادته ، ولذلك قال فيهم عز من قائل {وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ اليَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ}  (الكهف ١٨) فصار فعلهم فعله و قولهم قوله و لم يعد فيهم شيء لأنفسهم و مضى فيهم قوله تعالى {وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى} (الأنفال ١٧) و هذا لا يكون إلا إذا عارضت نفسك في كل ما تطلب لأنها لا تطلب إلا الموهوم ، فهي تميل بطبعها للباطل ، و هذا يقتضي المخالفة لجهتك من ربك و التي هي كينونتك التي هي نور الحق فيك ، ففي كل لحظة أنت تخير نفسك بين الجنة و النار ، ولكن بالعلم و العمل تتخير الحياة الحقيقية فتصدر منك أفعال تنسب للحق {وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ و الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّا} (مريم ٥٥) فيمحو الله من وجودك كل ما سواه ولا يبقى فيك إلا هو {يَمْحُو الله ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ} (الرعد ٣٩) فتكون حراً  

و اعلم أن نداء الحسين : "أما من ناصر ينصرنا" كان من الأزل و باق إلى الأبد ، فانظر في أحوالك و أفعالك  و أقوالك ، فنصرتهم في مخالفة الباطل و الظلمة و خذلانه ، فتكون محلاً و مصدراً للآثار الإلهية إذا بقيت جهتك التي من نفسك لمجرد حفظ وجودك و تبقى مسلوبة الحكم و التصرف فيك ، فينقطع شعورك لربك و تفقد الإنية و الإدراك بنفسك و بمن حولك ، فتكون عابساً حين ألقى ما عليه من متعلقات الدنيا فقام مخبراً عن سر الحياة : (حب الحسين أجنني)