أعرفوا الله بالله


سماحة الحكيم الإلهي و الفقيه الرباني المولى 

ميرزا عبدالله الحائري الاحقاقي حفظه الله 


أعرفوا الله بالله 


بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد و آل محمد 


 {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها(الرعد:١٧)


اعلم أن الولاية تعني التصرف المطلق في الوجود و تعني أيضاً الهيمنة و السلطان ، و المعنيان مجموعان لمحمدٍ و آله الطيبين الطاهرين (صلى الله عليه و آله) ، وهو المشار إليها في الآية الشريفة {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لله الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً و خَيْرٌ عُقْباً} (الكهف:٤٤) فولايتهم هي ولاية الله التي أراد إظهارها في هذا الوجود ، و بهذه السلطنة يدبر الولي شئونات المخلوق من أول نشأته إلى آخرها ، و هذا لكل واحد منهم على حد سواء ، لأن كل واحد منهم حجة مستقلة على جميع الخلق فوجب أن يكون عنده كل ما يحتاج إليه الخلق ، فنحن نعتقد بأن مولانا صاحب الأمر هو الحجة في هذا الزمان ، فالله تعالى اختاره لهذا الأمر {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} (الأنعام:١٢٤) .

 

فقد أوجد الله الحجة قبل الخلق فأشهده خلقة نفسه و خلقة كل شيء ، و على هذا فالإمام أعلم بكل مخلوق من نفسه ، و قد أعطاه الله خزائن السماوات و الأرض ينفق منها بأمره على من شاء الله كيفما شاء ، و هذا لكل عالم بحسبه ، ثم أنه جعل حساب الخلق عليه ، لأنه العالم بشرايع الله وحدوده .


و الموالي بحق هو الحامل لصفات وليه لأنه تابع له ، و التابع يكون ظهوراً لمتبوعه وجب أن يصل إلى مقام أن يفعل فعله لأنه مظهر لصفاته ، فالموالي بحق هو المستجمع لكل الكمالات (لكل بقدره) لأن وليه هو الظاهر بأكمل الصفات الإلهية في هذا الوجود ، فالسالك إذا أراد أن يصل إلى هذا المقام وضع هذه الغاية نصب عينيه كتكليف من التكاليف .. بل هو التكليف الأساسي الذي كلف الخلق بأدائه ، لأن الصلاة و سائر العبادات هي ظاهر التكليف و هي وسيلة توصل للهدف ، فالغاية هي الوصول للتكليف الحقيقي و هو الدخول في باب فنائك الذي هو باب ابتدائك .. و هنا يكون الكمال الذي ما بعده كمال .


و هذا الأمر لا يكون إلا بالمعرفة ، فإذا كانت المعرفة مطلوبة في كل حركة فكيف بعروجك إلى تلك العوالم بعد أن أثقلتك كثافة الإدبار و مشاهدة الأغيار و اختلط مزاجك بكثافات الطعام و الشراب و الهواء و المكان و الزمان ، فلا بد لك من معين يعينك على سلوك الطريق بعد أن يعرّفك عليه لأنه حري {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:٩٠) ، و هؤلاء هم الهداة الميامين محمد و آله الطيبين الطاهرين (صلى الله عليه و آله) ، سيما سيدنا و مولانا صاحب العصر و الزمان (عجل الله فرجه) و من سلك مسلكه إلى يوم الدين . 


و قد أشاروا صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين إلى أنه "من عرف نفسه فقد عرف ربه " و ذلك لأن المخلوق ليس بينه و بين خالقه مناسبة ولا مجانسة ولا مشابهة فكان لابد أن يستدل على ربه من خلال آثاره فيعرف أن وجود الأثر هو دليل واضح على إثبات وجود المؤثر ، فينظر في نفسه مثلاً .. فيعرف أنه مصنوع فيعلم أن له صانعاً ، وهذه معرفة أهل الظاهر ، و لكن معرفة أولي الأفئدة و الأبصار تدعو إلى النظر في الآثار لمعرفة صفات المؤثر ، وهذه الفئة يظهر لهم الصانع بآياته في الأشياء ، وهو قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتى يَتَبَيََّن لَهُمْ أَنَّهُ الحَق} (فصلت:٥٣) لأنهم (ع) قالوا: و في كل شيء له آية تدل على أنه واحد و الإنسان هو الأثر الأعظم الدال على خالق .. فقد دل على ذاته المقدسة بذاتك التي نسبها إليه تشريفاً فقال أمير المؤمنين (ع): "يا من دل على ذاته بذاته" فإذا علمت أن لكل مخلوق جهتان: جهة من ربه و هي منبع النور ، و جهة من نفسه و هي منبع الظلمة فقد أرادوك (ع) أن تعرف الوجه النوراني في وجودك ، لأنه الوجه المعرف لله و الحامل لكل الصفات الإلهية التي أراد عبده أن يعرفه بها ، فإذا وصلت إلى هذا المقام فاعلم أن ليس وراء عبادان قرية لأنها الجهة العليا في خلقتك ولا يمكنك أن تدرك ما وراء مبدئك ، و هذه هي أعلى المراتب التي يجب أن تصل إليها ، وهو قولهم (ع): "اعرفوا الله بالله" .


و معرفة ذلك الوجه يكون برفع الحدود و الحجب عن الوجدان التي قال فيها الجليل في حديثه القدسي : "روحك من روحي ، و طبيعتك من خلاف كينونتي" فوجب التخلص من قيود طبيعتك بعدم الالتفات إلى الدنيا وملذاتها والنفس ومتطلباتها ، وهناك سيكون لك السيطرة والهيمنه على من هو دونك في هذا الوجود لأنك صرت تابعاً بحقيقة التابعية لمولاك فحملت صفاته و صرت تفعل فعله ، فبعدما أزلت الحدود و تجلى لك النور بمقدار سم الإبرة عندها أدركت عياناً و بياناً أن الحقيقة التي تبحث عنها مكنونة مخزونة في وجودك و هي نورهم الذي منه أشرق كل نور وهو قول أمير المؤمنين (ع) لكميل:

"نور أشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره" .