قال صلوات الله عليه:
يا جابر ، أو تدري ما المعرفة؟ المعرفة إثبات التوحيد أولاً ، ثم معرفة المعاني ثانياً ، ثم معرفة الأبواب ثالثاً ، ثم معرفة الإمام رابعاً ، ثم معرفة الأركان خامساً ، ثم معرفة النقباء سادساً ، ثم معرفة النجباء سابعاً ، وهو قوله تعالى:
{لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} ، (٤)
وتلا أيضاً :
{وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (٥) .
يا جابر ، إثبات التوحيد ، ومعرفة المعاني : أما إثبات التوحيد معرفة الله القديم ، الغائب الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وهو غيب باطن ستدركه كما وصف به نفسه.
وأما المعاني فنحن معانيه ومظاهره فيكم ، اخترعنا من نور ذاته ، وفوَّض إلينا أمور عباده ، فنحن نفعل بإذنه ما نشاء ، ونحن إذا شئنا شاء الله ، وإذا أردنا أراد الله (۱) ، ونحن أحلَّنا الله عزّ جلّ هذا المحل ، واصطفانا من بين عباده ، وجعلنا حجته في بلاده ، فمن أنكر شيئاً وردَّه ، فقد ردَّ على الله جل اسمه ، وكفر بآياته وأنبيائه ورسله.
—————————————————————
(۱) لا يعني هذا الكلام أنّ مشيئة الأئمّة (عليهم السلام) متقدمة على مشيئة الله تعالى ، وإرادتهم متقدمة على إرادته ، حاشاهم (عليهم السلام) أن يعتقدوا هذا الاعتقاد لأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . بل المعنى أنهم (عليهم السلام) لا يشاءون إلا أن يعلموا أن مشيئتهم توافق مشيئة الله سبحانه وتعالى ، وإرادتهم تناسب إرادته . فهم (عليهم السلام) إذا شاءوا فلأنّ الله شاء ، وإذا أرادوا فلأنّ الله أراد.
—————————————————————
يا جابر ، من عرف الله تعالى بهذه الصفة ، فقد أثبت التوحيد ، لأن هذه الصفة موافقة لما في الكتاب المنزل ، وذلك قوله تعالى:
{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (۲)
وقوله تعالى:
{لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} (۳).
قال جابر : يا سيدي ، ما أقل أصحابي!
قال (عليه السلام) : هيهات ، هيهات ، أتدري كم على وجه الأرض من أصحابك؟
قلت : يابن رسول الله ، كنت أظن في كل بلدة ما بين المائة إلى المائتين ، وفي كل [إقليم منهم] ما بين الألف إلى الألفين ، بل كنت أظن أكثر من مائة ألف في أطراف الأرض ونواحيها،
قال (عليه السلام) : يا جابر، خالف ظنك ، وقصر رأيك ، أولئك المقصرون ، وليسوا لك بأصحاب.
قلت : يابن رسول الله ومن المقصر؟
قال : الذين قصروا في معرفة الأئمة ، وعن معرفة ما فرض الله عليهم من أمره وروحه،
قلت: يا سيدي وما معرفة روحه؟
قال (عليه السلام) : أن يعرف كل من خصه الله تعالى بالروح ، فقد فوض إليه أمره ، يخلق بإذنه ويحيي بإذنه ، ويعلم الغير ما في الضمائر ، ويعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وذلك أن هذا الروح من أمر الله تعالى ، فمن خصه الله تعالى بهذا الروح ، فهذا كامل غير ناقص ، يفعل ما يشاء بإذن الله ، يسير من المشرق إلى المغرب في لحظة واحدة ، يعرج به إلى السماء وينزل به إلى الأرض ، ويفعل ما شاء وأراد.
قلت : يا سيدي أوجدني بيان هذا الروح من كتاب الله تعالى وأنه من أمر خصه الله تعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
قال : نعم . اقرأ هذه الآية:
{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} (۱)
وقوله تعالى :
{أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (۲).
قلت : فرج الله عنك كما فرجت عني ، ووقفتني على معرفة الروح والأمر،
ثم قلت : يا سيدي صلى الله عليك فأكثر الشيعة مقصرون ، وأنا ما أعرف من أصحابي على هذه الصفة واحداً،
قال : يا جابر ، فإن لم تعرف منهم أحداً ، فإني أعرف منهم نفراً قلائل يأتون ويسلمون ، ويتعلمون مني سرنا ومكنوننا وباطن علومنا.
قلت : إن فلان ابن فلان وأصحابه من أهل هذه الصفة إن شاء الله تعالى ، وذلك أني سمعت منهم سراً من أسراركم وباطناً من علومكم ، ولا أظن إلا وقد كملوا وبلغوا.
قال (عليه السلام) : يا جابر ، ادعهم غداً وأحضرهم معك،
قال: فأحضرتهم من الغد فسلموا على الإمام (عليه السلام) وبجلوه ووقروه ووقفوا بين يديه.
فقال (عليه السلام) : يا جابر ، أما إنهم إخوانك ، وقد بقيت عليهم بقية ، أتقرّون أيها النفر ، أن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولا معقِّب لحكمه ولا رادّ لقضائه ، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون؟
قالوا : نعم ، إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد،
قلت : الحمد الله قد استبصروا وعرفوا وبلغوا، قال : يا جابر لا تعجل بما لا تعلم،
فبقيت متحيرا.
فقال (عليه السلام) : سلهم هل يقدر علي بن الحسين أن يصير صورة ابنه محمد؟
قال جابر : فسألتهم ، فأمسكوا وسكتوا.
قال (عليه السلام) : يا جابر سلهم هل يقدر محمد أن يصير بصورتي؟
قال جابر : فسألتهم فأمسكوا وسكتوا.
قال : فنظر إليَّ وقال : يا جابر ، هذا ما أخبرتك أنهم قد بقي عليهم بقية
فقلت لهم : ما لكم ما تجيبون إمامكم؟ فسكتوا وشكّوا.
فنظر إليهم وقال : يا جابر ، هذا ما أخبرتك به : قد بقيت عليهم بقية ، وقال الباقر (عليه السلام) : ما لكم لا تنطقون؟ فنظر بعضهم إلى بعض يتساءلون،
قالوا : يابن رسول الله ، لا علم لنا فعلِّمنا.
قال : فنظر الإمام سيد العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) إلى ابنه محمد الباقر (عليه السلام).
وقال لهم : من هذا ؟
قالوا : ابنك،
فقال لهم : من أنا ؟
قال : أبوه علي بن الحسين،
قال : فتكلم بكلام لم نفهمه ، فإذا محمد بصورة أبيه علي بن الحسين ، وإذا علي بصورة ابنه محمد،
قالوا : لا إله إلا الله . ...
فقال الإمام (عليه السلام) : لا تعجبوا من قدرة الله ، أنا محمد ومحمد أنا،
وقال محمد : يا قوم ، لا تعجبوا من أمر الله ، أنا علي وعلي أنا ، وكلنا واحد من نور واحد ، وروحنا من أمر الله ، أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد وكلنا محمد.
قال : فلما سمعوا ذلك خرّوا لوجوههم سجّداً ، وهم يقولون : آمنا بولايتكم وبسركم وبعلانيتكم ، وأقررنا بخصائصكم،
فقال الإمام زين العابدين : يا قوم ، ارفعوا رؤوسكم ، فأنتم الآن العارفون الفائزون المستبصرون ، وأنتم الكاملون البالغون ، الله الله لا تطلعوا أحداً من المقصرين المستضعفين ، على ما رأيتم مني ومن محمد ، فيشنعوا عليكم ويكذبوكم،
قالوا : سمعنا وأطعنا،
قال (عليه السلام) : فانصرفوا راشدين كاملين ، فانصرَفوا.
قال جابر : قلت : سيدي وكل من لا يعرف هذا الأمر ، على الوجه الذي صنعته وبيّنته ، إلا أن عنده محبة ويقول بفضلكم ويتبرأ من أعدائكم ، ما يكون حاله؟
قال (عليه السلام) : يكون في خير إلى أن يبلغوا.
قال جابر : قلت: يابن رسول الله ، هل بعد ذلك شيء يقصرهم؟
قال (عليه السلام) : نعم ، إذا قصّروا في حقوق إخوانهم ، ولم يشاركوهم في أموالهم ، وفي سر أمورهم وعلانيتهم ، واستبدّوا بحطام الدنيا دونهم ، فهنالك يسلب المعروف ، ويسلخ من دونه سلخاً ، ويصيبه من آفات هذه الدنيا وبلائها ما لا يطيقه ولا يحتمله من الأوجاع في نفسه وذهاب ماله ، وتشتت شمله لما قصّر في برّ إخوانه.
قال جابر : فاغتممت والله غماً شديداً ، وقلت : يابن رسول الله ، ما حق المؤمن على أخيه المؤمن؟
قال (عليه السلام) : يفرح لفرحه إذا فرح ، ويحزن لحزنه إذا حزن ، وينفذ أموره كلها ، فيحصّلها ولا يغتمّ لشيء من حطام الدنيا الفانية إلا واساه ، حتى يجريان في الخير والشر في قَرَن (۱) واحد.
قلت : يا سيدي ، فكيف أوجب الله كل هذا للمؤمن على أخيه المؤمن؟
قال (عليه السلام) : لأن المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأُمه على هذا الأمر ، لا يكون أخاه وهو أحق بما يملكه،
قال جابر : سبحان الله! ومن يقدر على ذلك؟
قال (عليه السلام) : من يريد أن يقرع أبواب الجنان ، ويعانق الحور الحسان ، ويجتمع معنا في دار السلام.
قال جابر : فقلت : هلكت - والله - يابن رسول الله ، لأني قصرت في حقوق إخواني ، ولم أعلم أنه يلزمني على التقصير كل هذا ولا عشره ، وأنا أتوب إلى الله تعالى - يابن رسول الله - مما كان مني من التقصير في رعاية حقوق إخواني المؤمنين (٢).