- وحدثني والدي من الكتاب المذكور (۲) قال : حدثنا أحمد بن عبيد الله قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن محمد الموصلي قال : أخبرني أبي عن خالد عن جابر بن يزيد الجعفي وقال : حدثنا أبو سليمان أحمد قال : حدثنا محمد بن سعيد عن أبي سعيد عن سهل بن زياد قال : حدثنا محمد بن سنان عن جابر بن يزيد الجعفي قال:
لما أفضت الخلافة إلى بني أمية ، سفكوا فيها الدم الحرام ، ولعنوا فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر ألف شهر ، وتبرأوا منه ، واغتالوا الشيعة في كل بلدة ، واستأصلوا بنيانهم من الدنيا ، لحطام دنياهم ، فخوفوا الناس في البلدان ، وكل من يلعن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يتبرأ منه ، قتلوه كائناً من كان.
قال جابر بن يزيد الجعفي : فشكوت من بني أمية ، وأشياعهم ، إلى الإمام المبين أطهر الطاهرين ، زين العبّاد ، وسيد الزهّاد ، وخليفة الله على العباد ، علي بن الحسين صلوات الله عليهما ، فقلت:
يابن رسول الله ، قد قتلونا تحت كل حجر ومدر ، واستأصلوا شأفتنا ، وأعلنوا لعن مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه على المنابر والمنارات والأسواق والطرقات ، وتبرأوا منه ، حتى إنهم ليجتمعون في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيلعنون علياً (عليه السلام) علانية ، لا ينكر ذلك أحد ولا ينهر ، فإن أنكر ذلك أحد منا حملوا عليه بأجمعهم، وقالوا : هذا رافضيّ ، أبو ترابيّ ، وأخذوه إلى سلطانهم ، وقالوا : هذا ذكر أبا تراب بخير ، فضربوه ثم حبسوه ، ثم بعد ذلك قتلوه.
فلما سمع الإمام صلوات الله عليه ذلك مني ، نظر إلى السماء فقال:
سبحانك اللهمَّ سيدي ، ما أحلمك وأعظم شأنك في حلمك ، وأعلى سلطانك يا رب ، قد أمهلت عبادك في بلادك ، حتى ظنوا أنك أمهلتهم أبداً ، وهذا كله بعينك ، لا يغالب قضاؤك ، ولا يردّ المحتوم من تدبيرك ، كيف شئت وأنى شئت ، وأنت أعلم به منا.
قال : ثم دعا صلوات الله عليه وآله ابنه محمداً (عليه السلام)
فقال: يا بنيّ،
قال: لبَّيك يا سيدي.
قال : إذا كان غداً ، فاغدُ إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وخذ معك الخيط الذي أُنزل مع جبرئيل على جدّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) فحركه تحريكاً ليناً ، ولا تحركه شديداً ، الله الله فيهلك الناس كلهم.
قال جابر : فبقيت متفكراً متعجباً من قوله ، فما أدري ما أقول لمولاي (عليه السلام) ، فغدوت إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بقي علي ليل ، حرصاً أن أنظر إلى الخيط وتحريكه ، فبينما أنا على دابّتي ، إذ خرج الإمام (عليه السلام) فقمت ، وسلمت عليه فردَّ عليَّ السلام وقال:
ما غدا بك ، فلم تكن تأتينا في هذا الوقت؟
فقلت : يابن رسول الله ، سمعت أباك صلّى الله عليه وآله يقول بالأمس:
خذ الخيط ، وسر إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحركه تحريكاً ليناً ، ولا تحركه تحريكاً شديداً ، فتهلك الناس كلهم.
فقال : يا جابر لولا الوقت المعلوم ، والأجل المحتوم ، والقدر المقدور ، لخسفت والله بهذا الخلق المنكوس ، في طرفة عين لا بل في لحظة ، لا بل في لمحة ، ولكننا عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
قال: قلت له : يا سيدي ولم تفعل هذا بهم؟
قال : ما حضرت أبي بالأمس ، والشيعة يشكون إليه ما يلقون من الناصبية الملاعين ، والقدرية المقصّرين؟
فقلت : بلى يا سيدي،
قال: فإني أُرعبهم ، وكنت أُحب أن يهلك طائفة منهم ، ويطهر الله منهم البلاد ويريح العباد.
قلت : يا سيدي فكيف ترعبهم ، وهم أكثر من أن يحصوا؟
قال : امضِ بنا إلى المسجد ، لأُريك قدرة الله تعالى.
قال جابر : فمضيت معه إلى المسجد ، فصلى ركعتين ، ثم وضع خده في التراب ، وكلم بكلمات ، ثم رفع رأسه ، وأخرج من كمه خيطاً دقيقاً ، يفوح منه رائحة المسك ، وكان أدق في المنظر من خيط المخيط، ثم قال :
خذ إليك طرف الخيط ، وامشِ رويداً ، وإياك ثم إياك أن تحركه.
قال : فأخذت طرف الخيط ، ومشيت رويداً،
فقال صلوات الله عليه: قف يا جابر،
فوقفت ، فحرك الخيط تحريكاً ليناً ، فما ظننت أنه حركه من لينه،
ثم قال : ناولني طرف الخيط ،
قال : فناولته.
فقلت : ما فعلت به يابن رسول الله؟
قال : ويحك اخرج إلى الناس وانظر ما حالهم،
قال: فخرجت من المسجد ، فإذا صياح وولولة ، من كل ناحية وزاوية ، وإذا زلزلة وهدة ورجفة ، وإذا الهدة أخربت عامة دور المدينة ، وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف رجل وامرأة.
وإذا بخلق يخرجون من السكك ، لهم بكاء وعويل ، وضوضاة ورنة شديدة ، وهم يقولون:
إنا لله وإنا إليه راجعون ، قد قامت الساعة ، ووقعت الواقعة وهلك الناس، وآخرون يقولون: الزلزلة والهدة، وآخرون يقولون : الرجفة والقيامة ، هلك فيها عامة الناس ، وإذا أُناس قد أقبلوا يبكون يريدون المسجد ، وبعضهم يقولون لبعض: كيف لا يخسف بنا ، وقد تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وظهر الفسق والفجور ، وكثر الزنا والربا ، وشرب الخمر واللواطة؟ والله لينزلن بنا ما هو أشد من ذلك وأعظم أو نصلح أنفسنا.
قال جابر : فبقيت متحيراً ، أنظر إلى الناس يبكون ويصيحون ويولولون ، ويغدون زمراً إلى المسجد ، فرحمتهم حتى والله بكيت لبكائهم ، وإذا لا يدرون من أين أُتوا وأُخذوا ، فانصرفت إلى الإمام الباقر (عليه السلام) ، وقد اجتمع الناس له وهم يقولون:
يابن رسول الله ، ما ترى ما نزل بنا بحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد هلك الناس وماتوا؟ فادعُ الله عزّ وجلّ لنا،
فقال لهم: افزعوا إلى الصلاة والصدقة والدعاء.
ثم سألني فقال : يا جابر ، ما حال الناس؟
فقلت : يا سيدي لا تسأل. يابن رسول الله ، خربت الدور والقصور ، وهلك الناس ، ورأيتهم بغير رحمة فرحمتهم،
فقال : لا رحمهم الله أبداً ، أما إنه قد بقي عليك بقية ، لولا ذلك ما رحمت أعداءنا وأعداء أوليائنا.
ثم قال (عليه السلام) : سحقاً سحقاً ، بعدًا بعداً للقوم الظالمين ، والله لو حركت الخيط أدنى تحريكة ، لهلكوا أجمعين ، وجعل أعلاها أسفلها ، ولم يبقَ دار ولا قصر ولكن أمرني سيدي ومولاي أن لا أحركه شديداً.
ثم صعد المنارة ، والناس لا يرونه ، فنادى بأعلى صوته:
ألا أيها الضالون المكذبون!!
فظن الناس أنه صوت من السماء ، فخرّوا لوجوههم ، وطارت أفئدتهم ، وهم يقولون في سجودهم : الأمان الأمان ، فإذا هم يسمعون الصيحة بالحق ، ولا يرون الشخص.
ثم أشار بيده صلوات الله عليه ، وأنا أراه والناس لا يرونه ، فزلزلت المدينة أيضاً زلزلة خفيفة ، ليست كالأولى ، وتهدمت فيها دور كثيرة ثم تلا هذه الآية : {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ} (١) ثم تلا بعدما نزل:
«فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها وأمطرنا (۲) عليهم حجارة من طين مسومةً عند ربك للمسرفين» (۳)
وتلا (عليه السلام):
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} (٤).
قال : وخرجت المخدرات في الزلزلة الثانية ، من خدورهن مكشفات الرؤوس ، وإذا الأطفال يبكون ويصرخون ، فلا يلتفت أحد . فلما بصر الباقر (عليه السلام) ضرب بيده إلى الخيط ، فجمعه في كفه فسكنت الزلزلة . ثم أخذ بيدي والناس لا يرونه ، وخرجنا من المسجد ، فإذا قوم قد اجتمعوا إلى باب حانوت الحداد ، وهم خلق كثير يقولون:
ما سمعتم في مثل هذا المدرة من الهمهمة؟ فقال بعضهم : بلى لهمهمة كثيرة ، وقال آخرون : بل والله صوت وكلام وصياح كثير ، ولكنا والله لم نقف على الكلام.
قال جابر : فنظر الباقر (عليه السلام) إلى قصتهم ثم قال:
يا جابر دأبنا ودأبهم ، إذا بطروا وأشروا وتمردوا وبغوا ، أرعبناهم وخوفناهم ، فإذا ارتدعوا وإلا أذن الله في خسفهم.
قال جابر : يابن رسول الله ، فما هذا الخيط الذي فيه الأعجوبة؟
قال : هذه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، تحمله الملائكة إلينا . يا جابر ، إن لنا عند الله منزلة ومكاناً رفيعاً ، ولولا نحن لم يخلق الله أرضاً ، ولا سماءً ولا جنة ولا ناراً ولا شمساً ، ولا قمراً ولا براً ولا بحراً ، ولا سهلاً ولا جبلاً ، ولا رطباً ولا يابساً ، ولا حلواً ولا مراً ، ولا ماءً ولا نباتاً ولا شجراً ، اخترعنا الله من نور ذاته لا يقاس بنا بشر . بنا أنقذكم الله عزّ وجلّ ، وبنا هداكم الله ، ونحن والله دللناكم على ربكم ، فقفوا على أمرنا ونهينا ، ولا تردّوا كل ما ورد عليكم منا ، فإنّا أكبر وأجل وأعظم وأرفع من جميع ما يرد عليكم ، ما فهمتموه فاحمدوا الله عليه ، وما جهلتموه فكلوا أمره إلينا وقولوا : أئمتنا أعلم بما قالوا.
قال : ثم استقبله أمير المدينة راكباً وحواليه حراسه ، وهم ينادون في الناس : معاشر الناس احضروا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن الحسين (عليه السلام) وتقربوا إلى الله عزّ وجلّ به ، لعل الله يصرف عنكم العذاب.
فلما بصروا بمحمد بن علي الباقر (عليه السلام) تبادروا نحوه وقالوا:
يابن رسول الله ، أما ترى ما نزل بأُمة جدك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هلكوا وفنوا عن آخرهم! أين أبوك حتى نسأله أن يخرج إلى المسجد ونتقرب به إلى الله ، ليرفع الله به عن أمة جدك هذا البلاء؟.
قال لهم محمد بن علي (عليه السلام) :
يفعل الله تعالى إن شاء الله ، أصلحوا أنفسكم ، وعليكم بالتضرع والتوبة والورع ، والنهي عما أنتم عليه ، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قال جابر : فأتينا علي بن الحسين (عليه السلام) وهو يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته ، وأقبل علينا فقال:
يا محمد ، ما خبر الناس؟
فقال : ذلك لقد رأى من قدرة الله عزّ وجلّ ما لا زال متعجباً منها.
قال جابر : إن سلطانهم سألنا أن نسألك أن تحضر إلى المسجد ، حتى يجتمع الناس ، يدعون ويتضرعون إلى الله عزّ وجلّ ويسألونه الإقالة.
قال : فتبسم ثم تلا : {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} (١)
{وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّـهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (٢).
فقلت : سيدي العجب أنهم لا يدرون من أين أُتوا!
قال : أجل ، ثم تلا:
{فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} (۳)
وهي والله آياتنا وهذه إحداها وهي والله ولايتنا!.
يا جابر ، ما تقول في قوم أماتوا سنَّتنا ، وتوالوا أعداءنا ، وانتهكوا حرمتنا ، فظلمونا وغصبونا ، وأحيوا سنن الظالمين ، وساروا بسيرة الفاسقين.
قال جابر : الحمد لله الذي منَّ عليَّ بمعرفتكم ، وألهمني فضلكم ووفقني لطاعتكم ، وموالاة مواليكم ومعاداة أعدائكم.