تحقيق الميرزا محمد تقي المامقاني

 تحقيق الميرزا محمد تقي المامقاني

وهناك تحقيق دقيق ، عن أكابر تلامذة الشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الأحسائي ، في حجية الخبر وعدمها ، للمولى العالم الماهر ، والحكيم المتبحر ، الميرزا محمد تقي المامقاني - قدست نفسه المباركة - فيه شفاء للصدور ، وبيان الأمر المحكوم . قال رحم الله:


( إن أوهن الطرق ، طريق من حصر وجه رد الأخبار وقبولها ، على ضعف رجال السند ووثاقتهم ، لأنه يؤدي بالبديهة إلى طرح طائفة من الأخبار ، التي نقطع بأن فيها ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) قطعاً وجزماً ، إن لم يكن الكل ، ولأنه شأن من لا يرى الطريق ، فيحتاج إلى عصى في المسير . وأما من فتح الله مسامع قلبه ، فعرف لحن كلام ساداته ، وحفظ الميزان الذي قررنا فيما سبق ، من العرض على محكمات الكتاب والسنة ، فمثله لا يحتاج إلى هذا التكلف ، الموقع صاحبه في المحذورات والهلكات ، بل يقبل كل ما وجده موافقاً للقسطاس المستقيم ، وإن جاء به كافر ودهريّ ، ويردّه أو يؤوِّله ، إذا لم يجده كذلك ، وإن جاء به أفضل من يوثق به.


على أنك لو تتبعت زبر أصحابنا الأكابر ، وجدتهم لا يسلكون في العمل بالأخبار إلا هذا المسلك الذي قررناه ، فكم من خبر ضعيف يقبلونه ويعملون به ، إذا وجدوه موافقاً لميزان الكتاب والسنة ، وكم من صحيح يطرحونه إذا وجدوه مخالفاً لذلك.


فليت شعري!! إذا كان المرجع في العمل بالأخبار وتركه ذلك ، فما الحاجة إلى التكلفات التي ارتكبوها في تشخيص أحوال الرجال؟ إن قلت : الداعي لنا إلى ذلك قول الله سبحانه : {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (١) الآية.


قلنا : نعم ، قول الله تعالى صادق مصدَّق ، ولكنك حرفت معناه ، فإنه تعالى لم يقل إن جاءكم فاسق بنبأ فاطرحوه ، وإنما قال : فتبينوا، وأيُّ تبيُّن أعظم من عرض النبأ على الكتاب والسنة القطعية؟!.


إن قلت إنّ أهل البيت (عليهم السلام) أمرونا في عدة أخبار ، بالأخذ بقول الأوثق والأعدل والأورع ، وناهيك بهذا في اعتبار علم الرجال!.


قلنا : حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء ، إن الأئمة (عليهم السلام) إنما أمرونا بذلك ، إذا كان في قضية روايتان ، وأعوزنا سائر وجوه الترجيح ، وأمكننا تشخيص وثاقة الراويين وعدالتهما.


وهذا إنما يتفق في نادر من الفروض جداً ، ولا يوجب سلوك هذا المسلك في الكلية ، لا سيما في أُصول العقائد ، التي هي المقصودة من تمهيد هذا العنوان ، فإنا نجد كثيراً من معاصرينا الذين ينتحلون العلم ، إذا ورد عليهم حديث بما لا تهوى أنفسهم ينكرونه ، استناداً إلى مجرد كون راويه ضعيفاً على زعمهم ، من غير أن يتدبروا معناه ، ويعرضوه على الموازين التي وضعها لنا حملة الكتاب (عليهم السلام) ، وتلقاها بالقبول جميع الأصحاب.


هذا كله على تقدير تسليم صحة ما دوَّنه علماء الرجال في كتبهم ، من التوثيقات والتضعيفات حتى يمكن لنا العلم بوثاقة الراوي وضعفه.


وأما إن رجعنا إلى التحقيق ، فالكلام فيه طويل ، يحتاج إلى بسط وتفصيل ، ولا بد من الإشارة إلى جملة من ذلك ، ليدل على ما لم نذكر حذراً من الإطالة) (١).


لما نقرأ ونتدبر ما كتب في علم الرجال ، من المتقدمين والمتأخرين ، نجد العجب العجاب في التعديل والتجريح ، لذا قد يجرح شخص بسبب عقائده في فضائل المعصومين (عليه السلام) ، كما حال الأكثر ، بالخصوص علماء بعض الحوزات ، كما يذكر في بحوث الخارج في الحوزات ، في بعض البحوث عن البعض ، هل يمكن للإمام (عليه السلام) الولاية التكوينية أم لا؟ وهل الإمام يعلم الغيب أم لا؟.


قال السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة: 

(فالظاهر أنه لتشدد القميّين في أمر الغلو ، وعدّهم نسبة جملة من المعجزات وخوارق العادات غلواً ، حتى عدَّ الصدوق تنزيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن السهو والنسيان أول الغلو ، ويدل على أن مجرد الاستثناء المذكور لا يوجب عدم الوثاقة ، وجود الثقة فيمن استثني على أن الصدوق مع اتباعه في ذلك وغيره شيخه ابن الوليد قد أكثر الرواية عن الرجل ، ولم يعبأ بهذا الاستثناء ، وابن الغضائري لا عبرة بتضعيفه ، لأنه لم يسلم منه أحد من الثقات ، كما هو معلوم ، ونقل الشيخ التضعيف عن قوم ظاهر ظهوراً بيناً ، في تأمله فيه وعدم قبوله إياه ، وكذلك قوله روى في مولد القائمة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)  الأعاجيب ، ظاهر ظهوراً بيناً في الإشارة إلى أنه منشأ التضعيف ، وعدم قبوله له وإلا لما وثقه ، والنجاشي وإن كان لا يستند إلى تضعيف ابن الغضائري دائماً ، فقد يستند اليه في بعض المواضع.


والمتأمل يجزم بأن منشأ التضعيف ، ونسبة الوضع والكذب ، وأنه متروك الحديث ، ونسبة الارتفاع في المذهب - أي الغلو - وفساد المذهب والرواية ، واجتماع كل عيوب الضعفاء فيه ، منشأ ذلك كله رواية المعجزات التي كانوا يعدونها غلواً ، فنسب إلى فساد المذهب والغلو لذلك ، ونسب إلى الوضع والكذب ، وفساد الرواية ، لأن من يروي الغلو ، فهو كاذب فاسد الرواية ، ونسب إلى اجتماع كل عيوب الضعفاء فيه ، لروايته مع ذلك عن الضعفاء والمجاهيل . فإن ذلك عندهم أيضاً من أسباب القدح ، وعدم قبول الرواية . وإذا ثبت أن ذلك هو المنشأ ، ظهر بطلان كل ما بني عليه ، ورواية الخصال تدل على أن الغلو والارتفاع المنسوب إليه ، لا يراد به الغلو الذي يضر اعتقاده) (۱).


وهذا الأمر موجود إلى الآن ، مجرد رجل يعتقد بفضائل المعصومين (عليهم السلام) ، بالمقامات العالية النورانية ، يرمونه بالغلو وبالخروج عن الدين والكفر ، وبالخصوص بعض الحوزات المعروفة بذلك ، وهذا عينه ما حدث للشيخ أحمد الأحسائي ، والسيد كاظم الرشتي رضوان الله عليهما ، وتلامذة هذه المدرسة إلى الآن ، حتى إن بعض المناطق الشيعية تحرِّم بيع وشراء كتب هذه المدرسة ، وتعاقب من ينهج نهجها ، ويعتقد بعقيدتها ؛ قال الشيخ محمد حسن آل طالقاني: 

(كتب البرغاني الشهيد الثالث إلى علماء كربلاء ، بأنه كفَّر الأحسائي ، وطلب متابعيهم في ذلك فاستجابوا ، وارتفعت الأصوات معلنة كفره ، وصار الناس في حيرة مما حدث ، ثم سادت الخصومة ، وتوسع الخلاف ، وظهر لدى الشيعة مبدأ جديد ، وقبرت خلافات الإخباريين والأصوليين ، وحلت محلها الشيخية وخصومها . وتوالت صكوك التكفير ، من كل حدب وصوب ، فقد كفره السيد علي الطباطبائي ، والسيد مهدي ، والشيخ محمد شريعة مداري ، والمولى آغا الدربندي ، والمازندراني ، والسيد إبراهيم القزويني ، والشيخ حسن النجفي ، والشيخ محمد حسين الأصفهاني) (۱).


ثم بدأ الميرزا محمد تقي المامقاني (رحمه لله) يفصل البحث تفصيلاً لم يسبقه إليه أحد وبما لا مزيد عليه ؛ قال (رحم الله):


(فنقول وبالله التوفيق : إن من تتبع زبر أصحاب الرجال ، وتدبر وجوه القدح والمدح فيها ، وجد أساسها مبنياً على فساد العقائد واستقامتها ، وإذا حققت ذلك ، وراجعت مأخذ تشخيصهم لعقائد الرجال ، وجدتهم يستندون في ذلك ، إلى أدنى شبهة في حقه ، أو في حق كتابه ، لا يسمن ولا يغني من جوع.


بعد بناء أساس القدح على مخالفة ما ارتضوه عندهم ، من الاعتقاد في أصول المذهب ، وأنت تعلم أن درجات الناس في معرفة العقائد الدينية ، والوقوف على فروعها وتفاصيلها متفاوتة ، لا تكاد تنضبط لكثرة انبساط شعبها ، بحيث لا تجد اثنين في درجة واحدة في ذلك ، ولا ريب أن كلاً من المخالفين يرى من يخالفه ليس على شيء.


وناهيك في تصديق ذلك : قول : (عن أحمد بن إدريس ، عن عمران بن موسى ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ذكرت التقية يوماً عند علي بن الحسين (عليه السلام) فقال : 

(والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما ، فما ظنكم بسائر الخلق) ، إن علم العلماء صعب مستصعب ، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ، فقال : وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت ، فلذلك نسبته إلى العلماء) (۱) (۲)


تمعن في كلمات الإمام السجاد (عليه السلام) ما بين سلمان وأبي ذر رضوان الله عليهما ، مع قربهما ومعرفتهما يصدر من أحدهما هذا الأمر، وهو قتل الآخر ، لذا قال حجة الإسلام المقدس المامقاني: 

(فمع ذلك كيف يجوز بناء أساس القدح ، على مخالفة ما عند القادح من الاعتقادات النظرية؟ على فرض نص المقدوح بالمخالفة ، فكيف بشبهة الخلاف؟ فإنه غلط على غلط) (۳). 


ثم أخذ حجة الإسلام المقدس المامقاني رضوان الله عليه في بيان أسباب بعض العلماء ، في تضعيف بعض الروايات ، وإن كانت صحيحة السند ، لأجل أن الرواية لا توافق معتقده ورأيه ، ويرمي الراوي بالغلو والضعف ، ويرمي بها عرض الحائط ، وهذا الأمر - ويا للأسف - موجود بكثرة في محافل الحوزات العلمية المعتمدة قديماً وحديثاً ، وبالخصوص في السنوات المتأخرة ، ومن تتبع كتبهم وجد هذا الأمر واضحاً بيناً . قال رحمه الله وأعلى مقامه:


(وبالجملة ، إن من تتبع مطاوي الأخبار ، وجال خلال السير والآثار ، وجد وجوه القدح في كثير من أكابر الرواة تدور على أحد وجوه: