رأينا المختار في حجية خبر الآحاد

 رأينا المختار في حجية خبر الآحاد

مما لا شك فيه أنه ليس كل صحيح يعمل به ، وليس كل ضعيف لا يعمل به في الجملة ، وهذا مما اشتهر عند قدماء علمائنا والمتأخرين في الجملة ، فكم من حديث صحيح أعرضوا عنه ، وكم من حديث ضعيف عملوا به ، ومن جاس خلال تلك الديار عرف الأمر واضحاً كالشمس في رائعة النهار ، قال الشهيد الثاني (رحمه الله): 

(العمل بالخبر الحسن ، واختلفوا في العمل بالحسن ، فمنهم من عمل به مطلقاً كالصحيح ، وهو الشيخ (رحم الله) ، على ما يظهر من عمله ، وكل من اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام ، ولم يشترط ظهورها.


ومنهم من ردَّه مطلقاً ، وهم الأكثرون ، حيث اشترطوا في قبول الرواية : الإيمان والعدالة كما قطع به العلامة في كتبه الأصولية وغيره.


والعجب ، أن الشيخ (رحمة الله) اشترط ذلك أيضاً في كتب الأصول ، ووقع له في الحديث وكتب الفروع الغرائب ، فتارةً يعمل بالخبر الضعيف مطلقاً ، حتى إنه يخصص به أخباراً كثيرة صحيحة ، حيث تعارضه بإطلاقها ، وتارةً يصرح بردّ الحديث لضعفه ، وأُخرى يردّ الصحيح ، معللاً بأنه خبر واحد ، لا يوجب علماً ولا عملاً ، كما هي عبارة المرتضى.


وفصل آخرون في الحسن : كالمحقق في المعتبر ، والشهيد في الذكرى ، فقبلوا الحسن بل الموثق ، وربما ترقوا إلى الضعيف أيضاً ، إذا كان العمل بمضمونه مشتهراً بين الأصحاب ، حتى قدموه حينئذ على الخبر الصحيح ، حيث لا يكون العمل بمضمونه مشتهراً) (۱).


وقال أيضاً (رحمة الله) في العمل بالموثق ، واختلاف الفقهاء في العمل به: 

(وكذا اختلفوا في العمل بالموثق ، نحو اختلافهم في الحسن ، فقبله قوم مطلقاً ، ورده آخرون ، وفصل ثالث بالشهرة وعدمها.


ويمكن أنّ اشتراك الثلاثة في دليل واحد ، يدل على جواز العمل بها مطلقاً ، وهو : أن المانع من قبول خبر الفاسق هو فسقه ، لقوله تعالى : 

{إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَاءٍ فَتَبَيَّنُوا ... } (۲) فمتى لم يعلم الفسق ، لا يجب التثبت عند خبر المخبر ، مع جهل حاله ، فكيف مع توثيقه ومدحه ، وإن لم يبلغ حد التعديل؟ وبهذا احتج من قبل المراسيل.


وقد أجابوا عنه : بأن الفسق ، لمّا كان علة التثبت ، وجب العلم بنفيه ، حتى يعلم وجود انتفاء التثبت ، فيجب التفحص عن الفسق ليعلم أو عدمه ، حتى يعلم التثبت أو عدمه ، وفيه نظر: 

لأن الأصل ، عدم وجود المانع في المسلم ، ولأنه مجهول الحال ، لا يمكن الحكم عليه بالفسق ، والمراد في الآية : المحكوم عليه بالفسق) (۳).


وقال أيضاً (رحم الله) في الضعيف ، واختلاف الفقهاء في العمل به: 

(وأما الضعيف : فذهب الأكثر : إلى منع العمل به مطلقاً ، للأمر بالتثبت عند إخبار الفاسق الموجب لرده ، وأجازه آخرون - وهم جماعة كثيرة: 

منهم من ذكرناه - مع اعتضاده بالشهرة ، رواية ، بأن يكثر تدوينها وروايتها بلفظ واحد ، أو ألفاظ متغايرة متقاربة المعنى ، أو فتوى بمضمونها في كتب الفقه ، لقوة الظن بصدق الراوي في جانبها ، أي جانب الشهرة وإن ضعف الطريق ، فإن الطريق الضعيف ، قد يثبت به الخبر ، مع اشتهار مضمونه ، كما تعمل مذاهب الفرق الإسلامية بقول: 

أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بأخبار أهلها - مع الحكم بضعفهم عندنا - وإن لم يبلغوا حد التواتر.


وبهذا اعتذر الشيخ (رحم الله) ، في عمله بالخبر الضعيف ، وهذه حجة من عمل بالموثق أيضاً ، بطريق أولى.


وفيه نظر ، يخرج تحريره عن وضع الرسالة ، فإنها مبنية على الاختصار ، ووجهه على وجه الإيجاز: 

إنّا نمنع من كون هذه الشهرة التي ادعوها ، مؤثرة في جبر الخبر الضعيف ، فإن هذا إنما يتم ، لو كانت الشهرة متحققة قبل زمن الشيخ (رحم الله) ، والأمر ليس كذلك ، فإن من قبله من العلماء ، كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقاً ، كالمرتضى ، والأكثر ، على ما نقله جماعة ، وبين جامع للأحاديث ، من غير التفات إلى تصحيح ما يصحّ ، وردّ ما يردّ ، وكان البحث عن الفتوى مجردة - لغير الفريقين - قليلاً جداً ، كما لا يخفى على من اطلع على حالهم.


فالعمل بمضمون الخبر الضعيف ، قبل زمن الشيخ ، على وجه يجبر ضعفه ، ليس بمتحقق. 

ولمّا عمل الشيخ بمضمونه ، في كتبه الفقهية ، جاء من بعده من الفقهاء ، واتبعه منهم عليها الأكثر ، تقليداً له ، إلا من شذ منهم ، ولم يكن فيهم من يسبر الأحاديث ، وينقب على الأدلة بنفسه ، سوى الشيخ المحقق ابن إدريس ، وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقاً.


فجاء المتأخرون بعد ذلك ووجدوا الشيخ ومن تبعه ، قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضعيف ، لأمر ما رأوه في ذلك ، لعل الله تعالى يعذرهم فيه ، فحسبوا العمل به مشهوراً ، وجعلوا هذه الشهرة جابرة لضعفه ولو تأمل المنصف وحرَّر المنقِّب ، لوجد مرجع ذلك كله إلى الشيخ ، ومثل هذه الشهرة ، لا تكفي في جبر الخبر الضعيف) (۱).


فإذا دققنا الأمر نجد أكثر الرواة ينقل بعضهم عن الآخر ، من دون تحقيق في الرواية ، فما قال به الشيخ واعتمده أخذوا به ، وإلا فلا.


قال الشهيد الثاني (رحم الله) في درايته : 

(وممن اطلع على أصل القاعدة ، التي بينتها وحققتها ونقبتها من غير تقليد : الشيخ الفاضل المحقق سديد الدين محمود الحمصي ، والسيد رضي الدين بن طاووس وجماعة.


قال السيد في كتاب - البهجة في ثمرة المهجة -: أخبرني جدي الصالح ورام بن أبي فراس : أن الحمصي حدثه ، أنه لم يبقَ للإمامية مفتٍ على التحقيق ، بل كلهم حال) (٢).


والبعض عمل بالخبر الضعيف في نحو : القصص ، والمواعظ ، وفضائل الأعمال ، من المستحبات والمكروهات ما لم يكن يرفضه العقل ولم يبلغ حد الوضع والاختلاق ، لما اشتهر بين العلماء المحققين ، من التساهل في أدلة السنن ، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخبر ، لما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : 

«من بلغه عن الله تعالى فضيلة ، فأخذها وعمل بما فيها ، إيماناً بالله ورجاء ثوابه ، أعطاه الله تعالى ذلك ، وإن لم يكن كذلك» (١).


وروی هشام بن سالم - في الحسن - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: 

(من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه ، كان له أجر ، وإن لم يكن على ما بلغه) (٢) 

يعني إذا عملت بالحديث الضعيف في الأمور المستحبة أو المكروهة المروية عن المعصومين (عليهم السلام) ، اعتماداً على أنها صادرة عنهم (عليهم السلام) ، لك الثواب وإن لم يقلها المعصوم (عليه السلام).


وعلى ذلك أنه ليس كل ضعيف بالمعنى الخاص لا يعمل به ، وليس كل صحيح بالمعنى الخاص يعمل به ، قال السيد محيي الدين الغريفي: 

(وأما الضعيف وهو المرسل ، أو المسند الذي لم يكن راويه موثقاً ، أو إمامياً ممدوحاً ، سواء كان مجهولاً ، أو مجروحاً ، فليس بحجة ، لعدم الدليل على جواز العمل به ، فلم يخرج عن حد الظنون التي لا يجوز العمل بها.


نعم ذكروا طريقين لجواز العمل بمثل هذا الحديث . أحدهما كون الراوي له من أصحاب الإجماع إذا صح السند إليه ، وإن ضعف من بعده من الرواة ، الثاني اشتهار العمل به لدى قدماء الفقهاء) (۳).