قصة شطيطة مع الإمام الكاظم (عليه السلام)

قصة شطيطة مع الإمام الكاظم (عليه السلام) 

ومما يصور الحالة الاجتماعية بشكل واضح ، بما كانت عليه من الاضطراب وضبابية الرؤية عند البعض ، مع وجود النصوص الجلية على الإمام الكاظم (عليه السلام) ، من أبيه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، والخوف من حكام الجور من الدولة العباسية ، وشدة التقية ، ما جرى من قصة شطيطة ، المرأة المؤمنة المخلصة ، التي أعطت نموذجاً لإخلاص العمل ، لا لكثرته ، كما قال تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (١) ، وثباتها على الحق ، مع أنها تعدّ من عوامّ الناس لا علمائهم ، وسقوط من يعدّ من العلماء ، كعمار الساباطي ، وعبد الله بكير ، وغيرهما من الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام).


لقد رُويت هذه القصة الواقعية في كتب الحديث والمراجع ، بشكل مفصل لتكون درساً لجميع الأجيال ، إلى أن تقوم الساعة ، في أنَّ منزلة المكلف بنيّته وإخلاصه لا بكثرة عمله … 

روي عن عثمان بن سعيد ، عن أبي علي بن راشد قال : 

اجتمعت العصابة بنيسابور في أيام أبي عبد الله (عليه السلام) ، فتذاكروا ما هم فيه من الانتظار للفرج ، 

وقالوا : نحن نحمل في كل سنة إلى مولانا ما يجب علينا ، وقد كثرت الكاذبة ، ومن يدعي هذا الأمر ، فينبغي لنا أن نختار رجلاً ثقة نبعثه إلى الإمام ، ليتعرف لنا الأمر . 


فاختاروا رجلاً يعرف بأبي جعفر محمد بن إبراهيم النيسابوري ، ودفعوا إليه ما وجب عليهم في السنة من مال وثياب ، وكانت الدنانير ثلاثين ألف دينار ، والدراهم خمسين ألف درهم ، والثياب ألفي شقة ، وأثواب مقاربات ومرتفعات . 


وجاءت عجوز من عجائز الشيعة الفاضلات اسمها (شطيطة) ومعها درهم صحيح ، فيه درهم ودانقان ، وشقّة من غزلها ، خام تساوي أربعة دراهم ، وقالت ما يستحق علي في مالي غير هذا ، فادفعه إلى مولاي ، 

فقال : يا امرأة أستحي من أبي عبد الله (عليه السلام) أن أحمل إليه درهماً وشقة بطانة . 

فقالت : «لمَ لا تفعل ! إن الله لا يستحي من الحق ، هذا الذي يستحق فاحمل يا فلان فلئن ألقى الله عز وجل وما له قبلي حق قلَّ أم كثر ، أحبّ إليّ من أن ألقاه وفي رقبتي لجعفر بن محمد حق» . 

قال : فعوجت الدرهم ، وطرحته في كيس ، فيه أربعمائة درهم لرجل يعرف بخلف بن موسى اللؤلئي ، وطرحت الشقة في رزمة فيها ثلاثون ثوباً لأخوين بلخيين يعرفان بابني نوح بن إسماعيل ، وجاءت الشيعة بالجزء الذي فيه المسائل ، وكان سبعين ورقة ، وكل مسألة تحتها بياض ، وقد أخذوا كل ورقتين فحزموهما بحزائم ثلاثة ، وختموا على كل حزام بخاتم ، 

وقالوا : تحمل هذا الجزء معك ، وتمضي إلى الإمام فتدفع الجزء إليه ، وتبيّته عنده ليلة ، وعد عليه وخذه منه ، فإن وجدت الخاتم بحاله لم يكسر ولم يتشعب ، فاكسر عنها ختمه وانظر الجواب ، فإن أجاب ولم يكسر الخواتيم فهو الإمام ، فادفعه إليه وإلا فردّ أموالنا علينا .


قال أبو جعفر : فسرت حتى وصلت إلى الكوفة ، وبدأت بزيارة أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، ووجدت على باب المسجد شيخاً مسناً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، وقد تشنج وجهه ، متزراً ببرد ، متشحاً بآخر ، وحوله جماعة يسألونه عن الحلال والحرام ، وهو يفتيهم على مذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فسألت من حضر عنه ، 

فقالوا : أبو حمزة الثمالي . 

فسلمت عليه ، وجلست إليه ، فسألني عن أمري، فعرَّفته الحال ، ففرح بي وجذبني إليه ، وقبّل بين عيني ، 

وقال : لو تجدب الدنيا ما وصل إلى هؤلاء حقوقهم ، وإنك ستصل بخدمتهم إلى جوارهم . 

فسررت بكلامه ، وكان ذلك أول فائدة لقيتها بالعراق ، وجلست معهم أتحدث إذ فتح عينيه ، ونظر إلى البرية ، 

وقال : هل ترون ما أرى؟ 

فقلنا : وأي شيء رأيت . 

قال : أرى شخصاً على ناقة . 

فنظرنا إلى الموضع فرأينا رجلاً على جمل ، فأقبل ، فأناخ البعير ، وسلم علينا وجلس ، 

فسأله الشيخ وقال : من أين أقبلت ؟ 

قال : من يثرب . 

قال : ما وراءك ؟ 

قال : مات جعفر بن محمد (عليه السلام) . 

فانقطع ظهري نصفين، وقلت لنفسي : إلى أين أمضي ؟! 

فقال له أبو حمزة : إلى من أوصى ؟ 

قال : إلى ثلاثة ، أولهم أبو جعفر المنصور ، وإلى ابنه عبد الله ، وإلى ابنه موسى . 

فضحك أبو حمزة ، والتفت إليّ وقال : لا تغتمّ فقد عرفت الإمام . 

فقلت : وكيف أيها الشيخ ؟! 

فقال : أما وصيته إلى أبي جعفر المنصور فستر على الإمام ، وأما وصيته إلى ابنه الأكبر والأصغر فقد بيَّن عن عوار الأكبر ، ونصَّ على الأصغر . 

فقلت : وما فقه ذلك ؟ 

فقال : قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الإمامة في أكبر ولدك يا علي ما لم يكن ذا عاهة» فلما رأيناه قد أوصى إلى الأكبر والأصغر ، علمنا أنه قد بيَّن عن عوار كبيره ، ونص على صغيره ، فسر إلى موسى ، فإنه صاحب الأمر . 

قال أبو جعفر : فودعت أمير المؤمنين ، وودعت أبا حمزة وسرت إلى المدينة ، وجعلت رحلي في بعض الخانات ، وقصدت مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزرته ، وصليت ، ثم خرجت وسألت أهل المدينة : 

إلى من أوصى جعفر بن محمد ؟ 

فقالوا : إلى ابنه الأفطح عبد الله 

فقلت : هل يفتي ؟ 

قالوا : نعم . 

فقصدته وجئت إلى باب داره فوجدت عليها من الغلمان ما لم يوجد على باب دار أمير البلد ، فأنكرت ، ثم قلت : 

الإمام لا يقال له لم وكيف ، فاستأذنت ، فدخل الغلام ، وخرج وقال : 

من أين أنت ؟ 

فأنكرت وقلت : والله ما هذا بصاحبي . 

ثم قلت : لعله من التقية ، فقلت : قل : فلان الخراساني ، 

فدخل وأذن لي فدخلت ، فإذا به جالس في الدست على منصة عظيمة ، وبين يديه غلمان قيام ، فقلت في نفسي : 

ذا أعظم ، الإمام يقعد في الدست؟! ثم قلت : هذا أيضاً من الفضول الذي لا يحتاج إليه ، يفعل الإمام ما يشاء ، فسلمت عليه ، 

فأدناني وصافحني ، وأجلسني بالقرب منه ، وسألني فأحفى، ثم قال : في أي شيء جئت؟ 

قلت : في مسائل أسأل عنها ، وأريد الحج . 

فقال لي : اسأل عما تريد 

فقلت : كم في المائتين من الزكاة؟ 

قال : خمسة دراهم . 

قلت : كم في المائة؟ 

قال : درهمان ونصف . 

فقلت : حسن يا مولاي ، أُعيذك بالله ، ما تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء ؟ 

قال : يكفيه من رأس الجوزاء ثلاثة . 

فقلت : الرجل لا يحسن شيئاً .


فقمت وقلت : أنا أعود إلى سيدنا غداً ، 

فقال : إن كان لك حاجة فإنا لا نقصر . 

فانصرفت من عنده ، وجئت إلى ضريح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فانكببت على قبره ، وشكوت خيبة سفري وقلت : 

يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إلى من أمضي في هذه المسائل التي معي؟ إلى اليهود ، أم إلى النصارى ، أم إلى المجوس ، أم إلى فقهاء النواصب ؟ إلى أين يا رسول الله؟ 

فما زلت أبكي وأستغيث به ، فإذا أنا بإنسان يحركني ، فرفعت رأسي من فوق القبر، فرأيت عبداً أسود عليه قميص خلق ، وعلى رأسه عمامة خلق فقال لي : 

يا أبا جعفر النيسابوري ، يقول لك مولاك موسى بن جعفر (عليه السلام) : 

«لا إلى اليهود ولا إلى النصارى ، ولا إلى المجوس ، ولا إلى أعدائنا من النواصب ، إليّ ، فأنا حجة الله ، قد أجبتك عما في الجزء ، وبجميع ما تحتاج إليه منذ أمس ، فجئني به ، وبدرهم شطيطة الذي فيه درهم ودانقان ، الذي في كيس أربعمائة درهم اللؤلئي ، وشقّتها التي في رزمة الأخوين البلخيين»

قال : فطار عقلي ، وجئت إلى رحلي ، ففتحت وأخذت الجزء والكيس والرزمة ، فجئت إليه فوجدته في دار خراب ، وبابه مهجور ما عليه أحد ، وإذا بذلك الغلام قائم على الباب ، فلما رآني دخل بين يديّ ، ودخلت معه ، فإذا بسيدنا (عليه السلام) جالس على الحصير ، وتحته شاذكونة (١) يمانية ، فلما رآني ضحك وقال: 

«لا تقنط ، ولم تفزع؟ إليّ ، لا إلى اليهود ، ولا إلى النصارى والمجوس ، أنا حجة الله ووليّه ، ألم يعرّفك أبو حمزة على باب مسجد الكوفة جري أمري؟!»

قال : فأزاد ذلك في بصيرتي ، وتحققت أمره . 

ثم قال لي : «هات الكيس» 

فدفعته إليه ، فحله وأدخل يده فيه ، وأخرج منه درهم شطيطة ، وقال لي : 

هذا درهمها ؟ 

فقلت : نعم . 

فأخذ الرزمة وحلها وأخرج منها شقة قطن مقصورة ، طولها خمسة وعشرون ذراعاً وقال لي : 

«اقرأ عليها السلام كثيراً ، وقل لها : قد جعلت شقتك في أكفاني ، وبعثت إليك بهذه من أكفاننا ، من قطن قريتنا صريا ، قرية فاطمة (عليه السلام) ، وبذر قطن كانت تزرعه بيدها الشريفة لأكفان ولدها ، وغزل أختي حكيمة بنت أبي عبد الله (عليه السلام) وقصارة يده لكفنه فاجعليها في كفنك» .


ثم قال : «يا معتب جئني بكيس نفقة مؤوناتنا» فجاء به ، فطرح درهماً فيه ، وأخرج منه أربعين درهماً ، وقال : 

«اقرأها مني السلام ، وقل لها : ستعيشين تسع عشرة ليلة من دخول أبي جعفر ، ووصول هذا الكفن ، وهذه الدراهم ، فأنفقي منها ستة عشر درهماً ، واجعلي أربعة وعشرين صدقة عنك ، وما يلزم عليك ، وأنا أتولى الصلاة عليك . 

فإذا رأيتني فاكتم ، فإن ذلك أبقى لنفسك ، وافكك هذه الخواتيم ، وانظر هل أجبناك أم لا ؟ قبل أن تجيء بدراهمهم كما أوصوك ، فإنك رسول .


فتأملت الخواتيم فوجدتها صحاحاً ، ففككت من وسطها واحداً ، فوجدت تحتها : ما يقول العالم (عليه السلام) في رجل قال : 

نذرت لله عزّ وجلّ لأعتقن كل مملوك كان في ملكي قديماً ، وكان له جماعة من المماليك ؟


تحته الجواب من موسى بن جعفر (عليه السلام) : 

من كان في ملكه قبل ستة أشهر ، والدليل على صحة ذلك قوله تعالى : 

{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (۱) وكان بين العرجون القديم والعرجون الجديد في النخلة ستة أشهر .


وفككت الآخر ، فوجدت فيه : ما يقول العالم (عليه السلام) في رجل قال : [والله] أتصدق بمال كثير ، بما يتصدق ؟ تحته الجواب بخطه (عليه السلام) : 

إن كان الذي حلف بهذا اليمين من أرباب الدنانير تصدق بأربعة وثمانين ديناراً ، وإن كان من أرباب الدراهم تصدق بأربعة وثمانين درهماً ، وإن كان من أرباب الغنم فيتصدق بأربعة وثمانين غنماً ، وإن كان من أرباب البعير فبأربعة وثمانين بعيراً، والدليل على ذلك قوله تعالى : 

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ} (۲) فعددت مواطن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل نزول الآية فكانت أربعة وثمانين موطناً .


وكسرت الأُخرى فوجدت فيها : ما يقول العالم (عليه السلام) في رجل نبش قبراً وقطع رأس الميت وأخذ كفنه؟


الجواب تحته بخطه (عليه السلام) : 

تقطع يده لأخذ الكفن من وراء الحرز ، ويؤخذ منه مائة دينار لقطع رأس الميت ، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه ، من قبل نفخ الروح فيه ، فجعلنا في النطفة عشرين ديناراً ، وفي العلقة عشرين ديناراً ، وفي المضغة عشرين ديناراً وفي اللحم عشرين ديناراً ، وفي تمام الخلق عشرين ديناراً ، فلو نفخ فيه الروح لألزمناه ألف دينار ، على أن لا يأخذ ورثة الميت منها شيئاً ، بل يتصدق بها عنه ، أو يحج ، أو يغزى بها ، لأنها أصابته في جسمه بعد الموت .


قال أبو جعفر فمضيت من فوري إلى الخان ، وحملت المال والمتاع إليه ، وأقمت معه ، وحج في تلك السنة ، فخرجت في جملته معادلاً له في عماريته في ذهابي يوماً ، وفي عمارية أبيه يوماً» .


ورجعت إلى خراسان فاستقبلني الناس ، وشطيطة من جملتهم ، فسلموا عليَّ ، فأقبلت عليها من بينهم وأخبرتها بحضرتهم بما جرى ، ودفعت إليها الشقة والدراهم ، وكادت تنشق مرارتها من الفرح ، ولم يدخل إلى المدينة من الشيعة إلا حاسد أو متأسف على منزلتها ودفعت الجزء إليهم ، ففتحوا الخواتيم ، فوجدوا الجوابات تحت مسائلهم . 


وأقامت شطيطة تسعه عشر يوماً ، وماتت رحمها الله ، فتزاحمت الشيعة على الصلاة عليها ، فرأيت أبا الحسن (عليه السلام) على نجيب ، فنزل عنه وأخذ بخطامه ، ووقف يصلي عليها مع القوم ، وحضر نزولها إلى قبرها ، ونثر في قبرها من تراب قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).


فلما فرغ من أمرها ، ركب البعير وألوى برأسه نحو البرية ، وقال: 

«عرّف أصحابك وأقرئهم عني السلام ، وقل لهم : إنني ومن جرى مجراي من أهل البيت ، لابد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم ، فاتقوا الله في أنفسكم ، وأحسنوا الأعمال لتعينونا على خلاصكم ، وفكّ رقابكم من النار» .


قال أبو جعفر : فلما ولّى (عليه السلام) عرفت الجماعة ، فرأوه وقد بعد ، والنجيب يجري به ، فكادت أنفسهم تسيل حزناً إذ لم يتمكنوا من النظر إليه (١).


وفي رواية مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ، أن محمد بن علي النيسابوري ، لما أعطى الإمام الكاظم (عليه السلام) الأمانات من نيسابور ، أخذ درهم شطيطة وقطعة القماش ، وقال الإمام (عليه السلام) :

إني سأجعل قماش شطيطة كفناً لي ، 

وبعدما أجاب عن جميع المسائل التي في الكيس المربوط ، وكل رسالة مختومة غير مفتوحة ، والإمام موسى (عليه السلام) جاوب عليها وهي مغلقة ، قال الإمام الكاظم (عليه السلام) لمحمد النيسابوري : 

اردد على أصحاب الأمانات أموالهم وهداياهم ، 

وأخذ فقط درهم شطيطة مع قماشها كفناً له (عليه السلام) ، فلما وافى محمد بن علي النيسابوري خراسان وجد الذين رد عليهم أموالهم ارتدّوا إلى الفطحية (١) .