ذكر مقتل الحسين بن علي صاحب فخ

ذكر مقتل الحسين بن علي صاحب فخ

كان سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أن موسى الهادي ولى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي ، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز بن عبد الله ، فحمل على الطالبيين وأساء إليهم ، وأفرط في التحامل عليهم ، وطالبهم بالعرض كل يوم ، وكانوا يعرضون في المقصورة(١) ، وأخذ كل واحد منهم بكفالة قرينه ونسيبه ، فضمن الحسين بن علي ، ويحيى بن عبد الله بن الحسن ، الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ، ووافى أوائل الحاج ، وقدم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً ، فنزلوا دار ابن أفلح بالبقيع وأقاموا بها ، ولقوا حسيناً وغيره ، فبلغ ذلك العمري فأنكره ، وكان قد أخذ قبل ذلك الحسن بن محمد بن عبد الله ، وابن جندب الهذلي الشاعر ، ومولىً لعمر بن الخطاب ، وهم مجتمعون ، فأشاع أنه وجدهم على شراب ، فضرب الحسن ثمانين سوطاً ، وضرب ابن جندب خمسة عشر سوطاً ، وضرب مولى عمر سبعة أسواط ، وأمر بأن يدار بهم في المدينة مكشفي الظهور ليفضحهم . 


فبعثت إليه الهاشمية ، صاحبة الراية السوداء في أيام محمد بن عبد الله ، فقالت له : 

لا ولا كرامة لا تشهر أحداً من بني هاشم ، وتشنع عليهم وأنت ظالم ، فكفَّ عن ذلك ، وخلَّى سبيلهم .


فلما اجتمع النفر من الشيعة في دار ابن أفلح ، أغلظ العمري أمر العرض ، وولى على الطالبيين رجلاً يعرف بأبي بكر بن عيسى الحائك مولى الأنصار ، فعرضهم يوم جمعة ، فلم يأذن لهم بالانصراف ، حتى بدأ أوائل الناس يجيئون إلى المسجد ، ثم أذن لهم ، فكان قصارى أحدهم أن يغدو ويتوضأ للصلاة ويروح إلى المسجد ، فلما صلوا حبسهم في المقصورة إلى العصر ، ثم عرضهم ، فدعا باسم الحسن بن محمد فلم يحضر ، فقال ليحيى والحسين بن علي : 

ليأتياني به أو لأحبسنكما ، فإن له ثلاثة أيام لم يحضر العرض ، ولقد خرج أو تغيب ، فرادَّه بعض المرادَّة (١) وشتمه يحيى ، وخرج فمضى ابن الحائك هذا ، فدخل على العمري فأخبره ، فدعا بهما فوبخهما وتهددهما ، فتضاحك الحسين في وجهه ، وقال : 

أنت مغضب يا أبا حفص ، 

فقال له العمري : أتهزأ بي وتخاطبني بكنيتي؟ 

فقال له : قد كان أبو بكر وعمر ـ وهما خير منك ـ يخاطبان بالكنى فلا ينكران ذلك ، وأنت تكره الكنية وتريد المخاطبة بالولاية . 


فقال له : آخر قولك شر من أوله . 

فقال : معاذ الله ، يأبى الله لي ذلك ، ومن أنا منه . 

فقال له : أفإنما أدخلتك إلي لتفاخرني وتؤذيني؟ فغضب يحيى بن عبد الله ، 

فقال له : فما تريد منا ؟ 

فقال : أريد أن تأتياني بالحسن بن محمد . 

فقال : لا نقدر عليه هو في بعض ما يكون فيه الناس ، فابعث إلى آل عمر بن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا ، ثم اعرضهم رجلاً رجلاً ، فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك ، فقد أنصفتنا ، فحلف على الحسين بطلاق امرأته وحرية مماليكه ، أنه لا يخلي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته ، وأنه إن لم يجئ به ليركبن إلى سويقة فيخربها ويحرقها ، وليضربن الحسين ألف سوط ، وحلف بهذه اليمين إن وقعت عينه على الحسن بن محمد ، ليقتلنه من ساعته ، فوثب يحيى مغضباً فقال له : 

أنا أعطي الله عهداً ، وكل مملوك لي حر إن ذقت الليلة نوماً حتى آتيك بالحسن بن محمد أو لا أجده ، فأضرب عليك بابك حتى تعلم أني قد جئتك . 

وخرجا من عنده وهما مغضبان ، وهو مغضب ، 

فقال الحسين ليحيى بن عبد الله : بئس لعمر الله ما صنعت حين تحلف لتأتينه به ، وأين تجد حسناً ؟ 

قال : لم أرد أن آتيه بالحسن والله ، وإلا فأنا نفيٌّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن علي (عليه السلام) بل أردت إن دخل عيني نوم حتى أضرب عليه بابه ، ومعي السيف ، إن قدرت عليه قتلته .

فقال له الحسين : بئسما تصنع تكسر علينا أمرنا . 

قال له يحيى : وكيف أكسر عليك أمرك ، وإنما بيني وبين ذلك عشرة أيام ، حتى تسير إلى مكة؟ 


فوجَّه الحسين إلى الحسن بن محمد فقال : يابن عمي ، قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق ، فامض حيث أحببت ، 

فقال الحسن : لا والله یابن عمي ، بل أجيء معك الساعة حتى أضع يدي في يده . 

فقال له الحسين : ما كان الله ليطَّلع عليَّ وأنا جاءٍ إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خصمي عليه وحجيجي في دمك ، ولكن أقيك بنفسي لعل الله أن يقيني من النار . 


قال : ثم وجّه ، فجاءه يحيى ، وسليمان ، وإدريس ، بنو عبد الله بن الحسن ، وعبد الله بن الحسن الأفطس ، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا ، وعمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي ، وعبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ووجهوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم ، فاجتمعوا ستة وعشرين رجلاً من ولد علي ، وعشرة من الحاجّ ، ونفر من الموالي ، فلما أذّن المؤذّن للصبح دخلوا المسجد ثم نادوا : 

«أحد ، أحد» وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند موضع الجنائز ، 

فقال للمؤذّن : أذّن بحيَّ على خير العمل ، فلما نظر إلى السيف في يده ، أذّن بها وسمعه العمري فأحس بالشر ودهش ، 

وصاح : أغلقوا البغلة الباب وأطعموني حبتي ماء. 

قال علي بن إبراهيم في حديثه : فولده إلى الآن بالمدينة يعرفون ببني حبتي ماء . 

ثم اقتحم إلى دار عمر بن الخطاب وخرج في الزقاق المعروف بزقاق عاصم بن عمر ، ثم مضى هارباً على وجهه ، يسعى ويضرط حتى نجا .


فصلى الحسين بالناس الصبح ، ودعا بالشهود العدول ، الذين كان العمري أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن إليه ودعا بالحسن ، وقال للشهود : 

هذا الحسن قد جئت به فهاتوا العمري ، وإلا والله خرجت من يميني ومما علي .


قال : وخطب الحسين بن علي بعد فراغه من الصلاة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أنا ابن رسول الله ، على منبر رسول الله ، وفي حرم رسول الله ، أدعوكم إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيها الناس : 

أتطلبون آثار رسول الله في الحجر والعود ، وتتمسحون بذلك ، وتضيعون بضعة منه !


فقال الراوي للحديث : فقلت في نفسي قولاً أُسِرُّه : إنا لله ! ما صنع هذا بنفسه . 

قال : وإلى جنبي عجوز مدنيّة ، 

فقالت : اسكت ويلك ، ألاِبن رسول الله تقول هذا ؟ 

قلت يرحمك الله ، والله ما قلت هذا إلا للإشفاق عليه .


فأقبل خالد البربري ، وكان مسلحة للسلطان بالمدينة في السلاح ، ومعه أصحابه حتى وافوا باب المسجد ، الذي يقال له : باب جبرائيل ، فنظرت إلى يحيى بن عبد الله ، قد قصده وفي يده السيف ، فأراد خالد أن ينزل فبدره يحيى فضربه على جبينه ، وعليه البيضة والمغفر والقلنسوة ، فقطع ذلك كله ، وأطار قحف رأسه وسقط عن دابته ، وحمل على أصحابه فتفرقوا وانهزموا .


وحج في تلك السنة مبارك التركي ، فبدأ بالمدينة للزيارة ، فبلغه خبر الحسين فبعث إليه من الليل : 

إني والله ما أُحب أن تبتلى بي ولا أُبتلى بك ، فابعث الليلة إليّ نفراً من أصحابك ، ولو عشرة يبيّتون عسكري حتى أنهزم وأعتلّ بالبيات ، ففعل ذلك الحسين ، ووجه عشرة من أصحابه ، فجعجعوا بمبارك وصيحوا في نواحي عسكره ، فطلب دليلاً يأخذ به غير الطريق ، فوجده فمضی به حتى انتهى إلى مكة .


وحج في تلك السنة العباس بن محمد ، وسليمان بن أبي جعفر ، وموسى بن عيسى ، فصار مبارك معهم ، واعتلّ عليهم بالبيات .


وخرج الحسين بن علي قاصداً إلى مكة ، ومعه من تبعه من أهله ومواليه وأصحابه وهم زهاء ثلاثمائة ، واستخلف على المدينة ديناراً الخزاعي ، فلما قربوا من مكة ، فصاروا بفخ وبلدح (۱) تلقتهم الجيوش ، فعرض العباس على الحسين الأمان والعفو والصلة ، فأبى ذلك أشد الإباء .


ولما أن رأى الحسين المسودة ، أقعد رجلاً على جمل ، معه سيف يلوح به ، والحسين يملي عليه حرفاً حرفاً ، يقول : ناد فنادى : يا معشر الناس ، يا معشر المسوِّدة هذا الحسين ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وابن عمه ، يدعوكم إلى كتاب الله ، وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .


قال الحسن : وحدثني محمد بن مروان عن أرطاة ، قال : لما كانت بيعة الحسين بن علي صاحب فخ قال : أُبايعكم على كتاب الله وسنّة رسول الله،  وعلى أن يطاع الله ولا يعصى ، وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والعدل في الرعية ، والقسم بالسوية ، وعلى أن تقيموا معنا ، وتجاهدوا عدونا ، فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا ، وإن نحن لم نفِ لكم ، فلا بيعة لنا عليكم . 


قال : ولقيته الجيوش بفخ وقادها : العباس بن محمد ، وموسى بن عيسى ، وجعفر ومحمد ابنا سليمان ، ومبارك التركي ، ومنارة ، والحسن الحاجب والحسين بن يقطين ، فالتقوا في يوم التروية ، وقت صلاة الصبح فأمر موسى بن عيسى بالتعبئة ، فصار محمد بن سليمان في الميمنة ، وموسى في الميسرة ، وسليمان بن أبي جعفر ، والعباس بن محمد في القلب ، فكان أول من بدأهم موسى فحملوا عليه ، فاستطرد لهم شيئاً ، حتى انحدروا في الوادي ، وحمل عليهم محمد بن سليمان من خلفهم ، فطحنهم طحنة واحدة ، حتى قتل أكثر أصحاب الحسين ، وجعلت المسوِّدة تصيح للحسين : 

يا حسين ، لك الأمان!! 

فيقول : ما أريد الأمان ، ويحمل عليهم حتى قتل . وقتل معه سليمان بن عبد الله بن الحسن ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن ، وأصابه الحسن بن محمد بنشابة في عينه ، وتركها في عينه ، وجعل يقاتل أشد القتال ، 

فناداه محمد بن سليمان : یابن خال ، اتق الله في نفسك ، ولك الأمان . 

فقال : والله ما لكم أمان ، ولكني أقبل منكم ، ثم كسر سيفاً هندياً كان في يده ، ودخل إليهم ، 

فصاح العباس بن محمد بابنه عبد الله : قتلك الله إن لم تقتله ، أبعد تسع جراحات تنتظر هذا ؟


فقال له موسى بن عيسى : إي والله عاجلوه ! فحمل عليه عبيد الله فطعنه ، وضرب العباس بن محمد عنقه بيده صبراً ، ونشبت الحرب بين العباس بن محمد ، ومحمد بن سليمان وقال : أمنت ابن خالي فقتلتموه ،

فقالوا : نحن نعطيك رجلاً من العشيرة تقتله مكانه .


وكان حماد التركي ممن حضر وقعة فخ  ، فقال للقوم : أروني حسيناً ، فأروه إياه ، فرماه بسهم فقتله ، فوهب له محمد بن سليمان مائة ألف درهم ومائة ثوب .


قالوا : وغضب موسى على مبارك التركي ، لانهزامه عن الحسين ، وحلف ليجعلنه سائساً . وغضب على موسى في قتله الحسن بن محمد صبراً ، وقبض أموالهم . وكان يقول : متى توافي فاطمة أخت الحسين بن علي؟ والله لأطرحنها إلى السواس (١) ، فمات قبل أن يوافي بها .


وذكر أن موسى بن عيسى دعاه ، فقال له : أحضرني جمالك . 

قال : فجئته بمائة جمل ذكر ، فختم أعناقها ، 

وقال : لا أفقد منها وبرة إلا ضربت عنقك ، ثم تهيأ للمسير إلى الحسين صاحب فخ ، فسار حتى أتينا بستان بني عامر فنزل ، 

فقال لي : اذهب إلى عسكر الحسين حتى تراه ، وتخبرني بكل ما رأيت فمضيت فدرت فما رأيت خللاً ولا فللاً ، ولا رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً ، أو ناظراً في مصحف ، أو معداً للسلاح 

قال : فجئته فقلت : ما أظن القوم إلا منصورين . 

فقال : وكيف ذاك يابن الفاعلة ؟ 

فأخبرته ، فضرب يداً على يد وبكى حتى ظننت أنه سينصرف ، ثم قال : هم والله أكرم عند الله ، وأحق بما في أيدينا منا ، ولكن الملك عقيم ، ولو أن صاحب القبر - يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف ! يا غلام ، اضرب بطبلك ، ثم سار إليهم ، فوالله ما انثنى عن قتلهم .