كان سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أن موسى الهادي ولى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي ، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز بن عبد الله ، فحمل على الطالبيين وأساء إليهم ، وأفرط في التحامل عليهم ، وطالبهم بالعرض كل يوم ، وكانوا يعرضون في المقصورة(١) ، وأخذ كل واحد منهم بكفالة قرينه ونسيبه ، فضمن الحسين بن علي ، ويحيى بن عبد الله بن الحسن ، الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ، ووافى أوائل الحاج ، وقدم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً ، فنزلوا دار ابن أفلح بالبقيع وأقاموا بها ، ولقوا حسيناً وغيره ، فبلغ ذلك العمري فأنكره ، وكان قد أخذ قبل ذلك الحسن بن محمد بن عبد الله ، وابن جندب الهذلي الشاعر ، ومولىً لعمر بن الخطاب ، وهم مجتمعون ، فأشاع أنه وجدهم على شراب ، فضرب الحسن ثمانين سوطاً ، وضرب ابن جندب خمسة عشر سوطاً ، وضرب مولى عمر سبعة أسواط ، وأمر بأن يدار بهم في المدينة مكشفي الظهور ليفضحهم .
فبعثت إليه الهاشمية ، صاحبة الراية السوداء في أيام محمد بن عبد الله ، فقالت له :
لا ولا كرامة لا تشهر أحداً من بني هاشم ، وتشنع عليهم وأنت ظالم ، فكفَّ عن ذلك ، وخلَّى سبيلهم .
فلما اجتمع النفر من الشيعة في دار ابن أفلح ، أغلظ العمري أمر العرض ، وولى على الطالبيين رجلاً يعرف بأبي بكر بن عيسى الحائك مولى الأنصار ، فعرضهم يوم جمعة ، فلم يأذن لهم بالانصراف ، حتى بدأ أوائل الناس يجيئون إلى المسجد ، ثم أذن لهم ، فكان قصارى أحدهم أن يغدو ويتوضأ للصلاة ويروح إلى المسجد ، فلما صلوا حبسهم في المقصورة إلى العصر ، ثم عرضهم ، فدعا باسم الحسن بن محمد فلم يحضر ، فقال ليحيى والحسين بن علي :
ليأتياني به أو لأحبسنكما ، فإن له ثلاثة أيام لم يحضر العرض ، ولقد خرج أو تغيب ، فرادَّه بعض المرادَّة (١) وشتمه يحيى ، وخرج فمضى ابن الحائك هذا ، فدخل على العمري فأخبره ، فدعا بهما فوبخهما وتهددهما ، فتضاحك الحسين في وجهه ، وقال :
أنت مغضب يا أبا حفص ،
فقال له العمري : أتهزأ بي وتخاطبني بكنيتي؟
فقال له : قد كان أبو بكر وعمر ـ وهما خير منك ـ يخاطبان بالكنى فلا ينكران ذلك ، وأنت تكره الكنية وتريد المخاطبة بالولاية .
فقال له : آخر قولك شر من أوله .
فقال : معاذ الله ، يأبى الله لي ذلك ، ومن أنا منه .
فقال له : أفإنما أدخلتك إلي لتفاخرني وتؤذيني؟ فغضب يحيى بن عبد الله ،
فقال له : فما تريد منا ؟
فقال : أريد أن تأتياني بالحسن بن محمد .
فقال : لا نقدر عليه هو في بعض ما يكون فيه الناس ، فابعث إلى آل عمر بن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا ، ثم اعرضهم رجلاً رجلاً ، فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك ، فقد أنصفتنا ، فحلف على الحسين بطلاق امرأته وحرية مماليكه ، أنه لا يخلي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته ، وأنه إن لم يجئ به ليركبن إلى سويقة فيخربها ويحرقها ، وليضربن الحسين ألف سوط ، وحلف بهذه اليمين إن وقعت عينه على الحسن بن محمد ، ليقتلنه من ساعته ، فوثب يحيى مغضباً فقال له :
أنا أعطي الله عهداً ، وكل مملوك لي حر إن ذقت الليلة نوماً حتى آتيك بالحسن بن محمد أو لا أجده ، فأضرب عليك بابك حتى تعلم أني قد جئتك .
وخرجا من عنده وهما مغضبان ، وهو مغضب ،
فقال الحسين ليحيى بن عبد الله : بئس لعمر الله ما صنعت حين تحلف لتأتينه به ، وأين تجد حسناً ؟
قال : لم أرد أن آتيه بالحسن والله ، وإلا فأنا نفيٌّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن علي (عليه السلام) بل أردت إن دخل عيني نوم حتى أضرب عليه بابه ، ومعي السيف ، إن قدرت عليه قتلته .
فقال له الحسين : بئسما تصنع تكسر علينا أمرنا .
قال له يحيى : وكيف أكسر عليك أمرك ، وإنما بيني وبين ذلك عشرة أيام ، حتى تسير إلى مكة؟
فوجَّه الحسين إلى الحسن بن محمد فقال : يابن عمي ، قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق ، فامض حيث أحببت ،
فقال الحسن : لا والله یابن عمي ، بل أجيء معك الساعة حتى أضع يدي في يده .
فقال له الحسين : ما كان الله ليطَّلع عليَّ وأنا جاءٍ إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خصمي عليه وحجيجي في دمك ، ولكن أقيك بنفسي لعل الله أن يقيني من النار .
قال : ثم وجّه ، فجاءه يحيى ، وسليمان ، وإدريس ، بنو عبد الله بن الحسن ، وعبد الله بن الحسن الأفطس ، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا ، وعمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي ، وعبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ووجهوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم ، فاجتمعوا ستة وعشرين رجلاً من ولد علي ، وعشرة من الحاجّ ، ونفر من الموالي ، فلما أذّن المؤذّن للصبح دخلوا المسجد ثم نادوا :
«أحد ، أحد» وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند موضع الجنائز ،
فقال للمؤذّن : أذّن بحيَّ على خير العمل ، فلما نظر إلى السيف في يده ، أذّن بها وسمعه العمري فأحس بالشر ودهش ،
وصاح : أغلقوا البغلة الباب وأطعموني حبتي ماء.
قال علي بن إبراهيم في حديثه : فولده إلى الآن بالمدينة يعرفون ببني حبتي ماء .
ثم اقتحم إلى دار عمر بن الخطاب وخرج في الزقاق المعروف بزقاق عاصم بن عمر ، ثم مضى هارباً على وجهه ، يسعى ويضرط حتى نجا .
فصلى الحسين بالناس الصبح ، ودعا بالشهود العدول ، الذين كان العمري أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن إليه ودعا بالحسن ، وقال للشهود :
هذا الحسن قد جئت به فهاتوا العمري ، وإلا والله خرجت من يميني ومما علي .
قال : وخطب الحسين بن علي بعد فراغه من الصلاة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أنا ابن رسول الله ، على منبر رسول الله ، وفي حرم رسول الله ، أدعوكم إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيها الناس :
أتطلبون آثار رسول الله في الحجر والعود ، وتتمسحون بذلك ، وتضيعون بضعة منه !
فقال الراوي للحديث : فقلت في نفسي قولاً أُسِرُّه : إنا لله ! ما صنع هذا بنفسه .
قال : وإلى جنبي عجوز مدنيّة ،
فقالت : اسكت ويلك ، ألاِبن رسول الله تقول هذا ؟
قلت يرحمك الله ، والله ما قلت هذا إلا للإشفاق عليه .
فأقبل خالد البربري ، وكان مسلحة للسلطان بالمدينة في السلاح ، ومعه أصحابه حتى وافوا باب المسجد ، الذي يقال له : باب جبرائيل ، فنظرت إلى يحيى بن عبد الله ، قد قصده وفي يده السيف ، فأراد خالد أن ينزل فبدره يحيى فضربه على جبينه ، وعليه البيضة والمغفر والقلنسوة ، فقطع ذلك كله ، وأطار قحف رأسه وسقط عن دابته ، وحمل على أصحابه فتفرقوا وانهزموا .
وحج في تلك السنة مبارك التركي ، فبدأ بالمدينة للزيارة ، فبلغه خبر الحسين فبعث إليه من الليل :
إني والله ما أُحب أن تبتلى بي ولا أُبتلى بك ، فابعث الليلة إليّ نفراً من أصحابك ، ولو عشرة يبيّتون عسكري حتى أنهزم وأعتلّ بالبيات ، ففعل ذلك الحسين ، ووجه عشرة من أصحابه ، فجعجعوا بمبارك وصيحوا في نواحي عسكره ، فطلب دليلاً يأخذ به غير الطريق ، فوجده فمضی به حتى انتهى إلى مكة .
وحج في تلك السنة العباس بن محمد ، وسليمان بن أبي جعفر ، وموسى بن عيسى ، فصار مبارك معهم ، واعتلّ عليهم بالبيات .
وخرج الحسين بن علي قاصداً إلى مكة ، ومعه من تبعه من أهله ومواليه وأصحابه وهم زهاء ثلاثمائة ، واستخلف على المدينة ديناراً الخزاعي ، فلما قربوا من مكة ، فصاروا بفخ وبلدح (۱) تلقتهم الجيوش ، فعرض العباس على الحسين الأمان والعفو والصلة ، فأبى ذلك أشد الإباء .
ولما أن رأى الحسين المسودة ، أقعد رجلاً على جمل ، معه سيف يلوح به ، والحسين يملي عليه حرفاً حرفاً ، يقول : ناد فنادى : يا معشر الناس ، يا معشر المسوِّدة هذا الحسين ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وابن عمه ، يدعوكم إلى كتاب الله ، وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال الحسن : وحدثني محمد بن مروان عن أرطاة ، قال : لما كانت بيعة الحسين بن علي صاحب فخ قال : أُبايعكم على كتاب الله وسنّة رسول الله، وعلى أن يطاع الله ولا يعصى ، وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والعدل في الرعية ، والقسم بالسوية ، وعلى أن تقيموا معنا ، وتجاهدوا عدونا ، فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا ، وإن نحن لم نفِ لكم ، فلا بيعة لنا عليكم .
قال : ولقيته الجيوش بفخ وقادها : العباس بن محمد ، وموسى بن عيسى ، وجعفر ومحمد ابنا سليمان ، ومبارك التركي ، ومنارة ، والحسن الحاجب والحسين بن يقطين ، فالتقوا في يوم التروية ، وقت صلاة الصبح فأمر موسى بن عيسى بالتعبئة ، فصار محمد بن سليمان في الميمنة ، وموسى في الميسرة ، وسليمان بن أبي جعفر ، والعباس بن محمد في القلب ، فكان أول من بدأهم موسى فحملوا عليه ، فاستطرد لهم شيئاً ، حتى انحدروا في الوادي ، وحمل عليهم محمد بن سليمان من خلفهم ، فطحنهم طحنة واحدة ، حتى قتل أكثر أصحاب الحسين ، وجعلت المسوِّدة تصيح للحسين :
يا حسين ، لك الأمان!!
فيقول : ما أريد الأمان ، ويحمل عليهم حتى قتل . وقتل معه سليمان بن عبد الله بن الحسن ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن ، وأصابه الحسن بن محمد بنشابة في عينه ، وتركها في عينه ، وجعل يقاتل أشد القتال ،
فناداه محمد بن سليمان : یابن خال ، اتق الله في نفسك ، ولك الأمان .
فقال : والله ما لكم أمان ، ولكني أقبل منكم ، ثم كسر سيفاً هندياً كان في يده ، ودخل إليهم ،
فصاح العباس بن محمد بابنه عبد الله : قتلك الله إن لم تقتله ، أبعد تسع جراحات تنتظر هذا ؟
فقال له موسى بن عيسى : إي والله عاجلوه ! فحمل عليه عبيد الله فطعنه ، وضرب العباس بن محمد عنقه بيده صبراً ، ونشبت الحرب بين العباس بن محمد ، ومحمد بن سليمان وقال : أمنت ابن خالي فقتلتموه ،
فقالوا : نحن نعطيك رجلاً من العشيرة تقتله مكانه .
وكان حماد التركي ممن حضر وقعة فخ ، فقال للقوم : أروني حسيناً ، فأروه إياه ، فرماه بسهم فقتله ، فوهب له محمد بن سليمان مائة ألف درهم ومائة ثوب .
قالوا : وغضب موسى على مبارك التركي ، لانهزامه عن الحسين ، وحلف ليجعلنه سائساً . وغضب على موسى في قتله الحسن بن محمد صبراً ، وقبض أموالهم . وكان يقول : متى توافي فاطمة أخت الحسين بن علي؟ والله لأطرحنها إلى السواس (١) ، فمات قبل أن يوافي بها .
وذكر أن موسى بن عيسى دعاه ، فقال له : أحضرني جمالك .
قال : فجئته بمائة جمل ذكر ، فختم أعناقها ،
وقال : لا أفقد منها وبرة إلا ضربت عنقك ، ثم تهيأ للمسير إلى الحسين صاحب فخ ، فسار حتى أتينا بستان بني عامر فنزل ،
فقال لي : اذهب إلى عسكر الحسين حتى تراه ، وتخبرني بكل ما رأيت فمضيت فدرت فما رأيت خللاً ولا فللاً ، ولا رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً ، أو ناظراً في مصحف ، أو معداً للسلاح
قال : فجئته فقلت : ما أظن القوم إلا منصورين .
فقال : وكيف ذاك يابن الفاعلة ؟
فأخبرته ، فضرب يداً على يد وبكى حتى ظننت أنه سينصرف ، ثم قال : هم والله أكرم عند الله ، وأحق بما في أيدينا منا ، ولكن الملك عقيم ، ولو أن صاحب القبر - يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف ! يا غلام ، اضرب بطبلك ، ثم سار إليهم ، فوالله ما انثنى عن قتلهم .