ثم جاء بعد موسى الهادي أخوه هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الملقب بالرشيد ، تولد بالري سنة خمس وأربعين ومائة هجرية ، عمره حين تولى الحكم اثنان وعشرون سنة ، سنة سبعين ومائة هجرية ، أمه خيزران أم ولد .
وإذا ما راجعنا التأريخ من العامة والخاصة ، نجد أنّ تاريخ هارون العباسي من الجهة الأخلاقية ، مملوء بالفسق والفجور وشرب الخمور ، وإعطاء المغنين والمغنيات آلاف الدنانير والدراهم والمنح ، كما يذكر أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه وغيره ، يروي عن إسحاق قال :
كنّا مع الرشيد بالرّقّة ، وخرج يوماً إلى ظهرها يصيد ، وكنت في موكبه أُساير الزّبير بن دحمان ، فذكَّرني بغداد وطيبها وأهلي وإخواني وحرمي ، فتشوقت لذلك شوقاً شديداً ، وعرض لي همّ وفكر حتى أبكاني ،
فقال لي الزبير : ما لك يا أبا محمد ؟ فشكوت إليه ما عرض لي ، وقلت :
أسعد بدمعك يا أبا العوّام
صبّاً صريع هوىً ونضـو سـقـام
وذكر باقي الأبيات ، وعلمت أن الخبر سينمى إلى الرشيد ، فصنعت في الأبيات لحناً ، فلما جلس الرّشيد للشّرب ، ابتدأت فغنّيته إياه ، فقال لي :
تشوّقت والله يا إسحاق وشوّقت وبلغت ما أردت ، وأمر لي بثلاثين ألف درهم ، وللزبير بعشرين ألفاً ، ورحل إلى بغداد بعد أيّام .
وعن إسحاق قال : جاءني الزّبير بن دحمان ذات يوم مسلماً ، فاحتبسته فقال : قد أمرني الفضل بن الربيع بأن أصير إليه فقلت :
أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب
ونلهو مع اللَّاهين يوماً ونطرب
إذا ما رأيت الـيـوم قـد جـاء خـيـره
فخذه بشكر واترك الفضل يغضب
قال : فأقام عندي فشربنا باقي يومنا ، ثم سار الزبير إلى الفضل ، فسأله عن سبب تأخره عنه ، فحدّثه بالحديث، وأنشده الشعر ، فغضب وحوّل وجهه عنّي ، وأمر عوناً حاجبه ألاَّ يدخلني اليوم ، ولا يستأذن لي عليه ، ولا يوصل لي رقعة إليه ، قال : فقلت :
حرام عليّ الكأس ما دمت غضبانا
وما لم يعد عنّي رضاك كما كانا
فأحسن فإنّي قد أسأت ولم تزل
تعوّدني عند الإساءة إحســانـا
قال : وأنشدته إياهما ، فضحك ورضي عني ، وعاد إلى ما كان عليه (١) .
وذكر الطبري في تاريخه عن جبريل بن بختيشوع ، أنه قال كنت مع الرشيد بالرقة ، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة ، فأتعرف حاله في ليلته ، فإن كان أنكر شيئاً وصفه ، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه ، وما عمل في مجلسه ، ومقدار شربه ، وساعات جلوسه (۲) .
هذا من جانب الأخلاقيات ، وأما من جانب الإجرام ، والحقد والحسد على العلويين ، من أولاد علي وفاطمة الزهراء (عليهم السلام) ، وذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحدِّث ولا حرج ، أخذ يطاردهم تحت كل حجر ومدر ، حتى سكنوا الجبال والبراري ، والشاهد على ذلك مقابرهم في شرق الأرض وغربها ، مع العلم أنهم من مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، روى المؤرخون من العامة والخاصة ، أنه قتل في ليلة واحدة ستين علوياً ، على يد أهم وزرائه البارزين له ، حميد بن قحطبة .