أما المروي عن الكتاب والسنة هي الحكمة بقسميها :
- الحكمة النظرية العلمية : وهي المعبر عنها بمعرفة الله وصفاته وأسمائه وتوحيده سبحانه ، كما قال تعالى :
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ} (۱)
قال الشيخ أحمد الإحسائي :
(يعني أن دليل الحكمة آلة لتحصيل المعارف الإلهية الحقة ، وبه يعرف الله لا بغيره من الأدلة ... كما إذا قلت : إن كل أثر يشابه صفة مؤثره ، وأنه قائم به ، أي بفعله قيام صدور كالكلام ، فإنه قائم بالمتكلم قيام صدور ، وكالأشعة بالمنيرات والصور والمرايا .
فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها ، لأنه تعالى لا يظهر بذاته ، وإلا لاختلفت حالتاه ، ولا يكون شيء أشد ظهوراً وحضوراً وبياناً من الظاهر في ظهوره ، لأن الظاهر أظهر من ظهوره ، وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفته إلا بظهوره ، مثل القيام والقعود ، فإن القائم أظهر من القيام ، وإن كان لا يتوصل إليه إلا بالقيام .
فتقول يا قائم يا قاعد ، فأنت إنما تعني القائم لا القيام ، لأنه بظهوره لك بالقيام غيب عنك مشاهدة القيام أصلاً ، إلا أن تلتفت إلى نفس القيام فيحتجب عنك القائم بالقيام فهذا الاستدلال الذي هو دليل الحكمة ، يكون سبحانه عند العارف أظهر من كل شيء ،
كما قال سيد الشهداء (ع) : «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك» (٢)
و تحصل به المعرفة الحقة ، ولا تحصل بغيره أصلا) (۱)
ويكون العارف بهذه الحكمة ، يد الله سبحانه ولسانه ، كما في الحديث المشهور عند العامة والخاصة ، في المحاسن عنه ، عن عبد الرحمن بن حماد ، عن حنان بن سدير ، عن أبي عبد الله (ع) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : قال الله :
«ما تحبب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه ، وإنه ليتحبب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، إذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته» (٢) .
يكون يسمع ويبصر وينطق ويتحرك بالله عز وجل ، أي يسمع ما لا يسمع غيره ، ويبصر ما لا يبصر غيره ، عنده الدنيا خطوة مؤمن .
وقد تعرف الحكمة العلمية ، معرفة الأشياء على ما هي عليه ، أي تنكشف له الأمور ، ويصفها كما يراها بعين الله عز وجل .
- والحكمة العملية : وهي عبارة عن علم الأخلاق ، المروية عن أئمة الهدى (ع) ، وهي التي أوتي لقمان (ع) إياها ، كما قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ}(۳) .
لا المروية عن المخالفين لمذهب أهل البيت (ع) ، كالصوفية وغيرهم ، من الرياضات الجسمية والروحية ، والأعمال الغير مشروعة ، من سماع الموسيقى وبعض المخالفات الشرعية ، لأمور دنيوية .
فالحكمة العلمية النظرية متوقفة على العملية الأخلاقية ، فمن لم يكن متخلقاً بأخلاق الله تعالى والمعصومين (ع) ، لا يمكن له معرفة الله تعالى بالمعرفة الحقيقية ، بل يشرق ويغرب ، ولا يهتدي إلى الحقيقة والتوحيد ، ومن ذلك قولهم بوحدة الوجود وغيرها .
فالذي يحصل على الحكمة العملية الأخلاقية الحقة ، يحصل على الحكمة العلمية النظرية ، وهي معرفة التوحيد الحقيقي ، والذي يعرف التوحيد الحقيقي ، تنكشف له المغيبات والأسرار ، المودوعة فيه وفي العالم ،
كما قال مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) :
أتزعم أنك جرم صغير
وفـيـك انـطـوى الـعـالـم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي
بأحرفه يظهر المضمر
ويكون صاحب فراسة ، كما في الحديث المشهور كما روي عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه ، عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن أبي الحسن الرضا (ع) ، قال : قال لي :
«يا سليمان إن الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من نوره ، وصبغهم في رحمته ، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية ، فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، أبوه النور وأمه الرحمة ، فاتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله الذي خلق منه» (۱) .
قال تعالى :
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (٣) .
قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّـهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ} هي الحكمة العملية الأخلاقية ، فالعامل بها يؤتى كفلين أي نصيبين خير الدنيا والآخرة .
وقوله سبحانه : {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} هي الحكمة العلمية النظرية وهي معرفة التوحيد ، وإذا وصل إلى معرفة التوحيد الحقيقي ، يجعل له نوراً يكتشف به المغيبات والأسرار ، ما وراء عالم المادة ، المعبر عنه بعالم الناسوت ، كما في الحديث المتقدم «فاتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله الذي خلق منه» .
روي عن أمير المؤمنين علي (ع) :
«ليس العلم في السماء فينزل إليكم ، ولا في تخوم الأرض فيخرج لكم ، ولكن العلم مجبول في قلوبكم ، تأدبوا بآداب الروحانيين يظهر لكم» (۱) .
فآداب الروحانيين هي أخلاقيات الكتاب والسنة المطهرة لا غير ،
كما قال تعالى :
{وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ وَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (٢)
وقوله تعالى :
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّـهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (۳) ،
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّـهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (٤) ،
{أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعاً} (٥)،
{إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعاً} (٦) ،
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (١) ،
وقال تعالى حاكيا عن نبي الله هود على نبينا وآله وعليه السلام :
{مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّـهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (۲) .
فالعمل بهذه الآيات والأحاديث الكثيرة ، التي لا يمكن ذكرها ، لكثرتها في الكتاب والسنة ، مما يصقل الإنسان ، وينظر بنور الله عز وجل وروي عن أمالي الشيخ الطوسي أبو قتادة ، عن صفوان الجمال ، قال : دخل المعلى بن خنيس على أبي عبد الله (ع) يودعه وقد أراد سفراً ، فلما ودعه ،
قال : «يا معلى ، أعزز بالله يعززك .
قال : بماذا ، يا بن رسول الله ؟
قال : يا معلى ، خف الله (تعالى) يخف منك كل شيء .
يا معلى ، تحبب إلى إخوانك بصلتهم ، فإن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة ، فأنتم والله إن تسألوني وأعطيكم فتحبوني أحب إلي من ألا تسألوني فلا أعطيكم فتبغضوني ، ومهما أجرى الله (عز وجل) لكم من شيء على يدي فالمحمود الله (تعالى) ، ولا تبعدون من شكر ما أجرى الله لكم على يدي» (٣) .
فهذه الأخلاقيات من العلم والعمل بها ، على الظاهر والباطن ، تظهر له الحكمة النظرية ، وتنكشف له الأمور ، بالنور الذي خلق منه كما تقدم .