روى الخصيبي أيضاً في حديث له : قال الرشيد :
لكني أفعل فعلاً ، إن تم لم يبق لي غيره في موسى ، وكتب إلى عماله في الأطراف ، أن التمسوا لي قوماً غتماً لا دين لهم ، ولا يعرفون الله ولا رسوله ، فأقدم عليه منهم طائفة ، فلما نظر إليهم فإذا هم قوم يقال لهم الغيدة(٢) ، وكانوا خمسين رجلاً .
قال علي بن أحمد البزاز : فلما قدموا عليه ، أمر أن ينزلوا في حجرة في دار الرشيد ، فجعل لهم هارون الكُسى(۳) والحلي ، والمال والجواهر ، والطيب والجواري ، والخدم ما يجلّ ذكره ، وغدوا بأطيب الطعام ، وسقوا أفضل الشراب ، وأدخلوا على الرشيد بعد ثلاثة أيام.
فقال لترجمانهم : قل لهم : من ربّكم ؟
قالوا : لا نعرف رباً، ولا ندري ما هذه الكلمة،
فقال : قل لهم : من أنا ؟
فقالوا له : قل إنك ما شئت حتى نقول إنك هو،
فقال لترجمانهم : قل لهم : أليس رأيتم ما فعلت بكم منذ قدمتم؟
قالوا : بلى
فقال : أنا أقدر أن أُجيعكم وأُعريكم ، وأقتلكم وأحرقكم بالنار،
فقالوا : لا ندري ما تقول إلّا أنا نطيعك ولو في قتل أنفسنا ، وكان الرشيد قد مثَّل لهم صورة أبي الحسن (عليه السلام) حتى لو رآه من عرفه لحلف بالله إن ذلك المثال أبو الحسن موسى (عليه السلام).
فأمر الرشيد فنصب لهم موائد وهو جالس ، والخادم معه في مستشرف له ، وينقل إليهم الطعام الذي لا يعقلونه ، وخرجت عليهم الجواري بالعيدان والنايات والطبول ، فوقفن صفوفاً ، حولهم يغنين والكاسات تأخذهم من كل جانب ، والخلع تطرح عليهم ، والأموال تنثر عليهم ،
فلما سكروا قال لترجمانهم : قل لهم : قوموا فخذوا سيوفكم وادخلوا على عدو لي في هذه الحجرة فاقتلوه.
وكان الرشيد قد أمر بذلك المثال ، فجعل في تلك الحجرة،
وقال : إن كان هؤلاء في معرفة موسى مثل البعرعر(۱) الذين عرفوا صورة جعفر ابن محمد عند جدي المنصور ، فإذا رأوا صورته سيفعلون فعلهم ، وإن لم يعرفوه فسيقتلون صورته ، فإذا قتلوا صورته اليوم قتلوه هو غداً ، فأخذوا سيوفهم ودخلوا الحجرة ، فلما رأوا المثال تبادروا إليه ووضعوا سيوفهم عليه فرضّوه .
فقال الرشيد : الحمد لله قتلت موسى بهؤلاء القوم بلا شكّ ، فخلع عليهم خلعاً أخرى ، وحمل إليهم الأموال وردهم إلى دورهم ، ولم يزل الرشيد يمثل لهم ذلك المثال سبع مرات وهم يقتلونه.
فلما رأى ذلك منهم أمر بإحضار موسى (عليه السلام) وجعله في حجرة مثل تلك الحجرة على سبيل تلك التماثيل ، ثم أحضرهم ،
وقال لترجمانهم : قل لهم : ما بقي لي عدو من أعدائي إلا واحد فاقتلوه ، وقد سلمت إليكم المملكة ، فأخذوا سيوفهم ودخلوا على أبي الحسن موسى (عليه السلام) والرشيد والخادم في مستشرف له على تلك الحجرة ، يقول للخادم أين موسى؟
قال : جالس في وسط الدار على بساط .
قال : فماذا يصنع ؟
قال : مستقبل القبلة ماداً يديه إلى السماء يحرك شفتيه،
فقال الرشيد : إنا لله ليته ما يكفي ما نريده به،
ثم قال للخادم : هل دخل القوم عليه ؟
قال : قد دخل أولهم ورمى بسيفه ، ودخل جميعهم فرموا بسيوفهم ، وخرّوا سجّداً حوله ، وهو يمر يده على رؤوسهم ، ويخاطبهم بمثل لغتهم ، وهم يخاطبونه على وجوههم.
قال : فغشي على الرشيد ، وقال للخادم خذ باب المستشرف الذي نحن فيه ، كي لا يأمرهم موسى بقتلنا ، وقل لترجمانهم يقول لهم : اخرجوا ، وأقبل يتململ [وهو] يقول : يا فضيحتاه كدت موسى كيداً ، فما نفعني فيه شيء!
وصاح الخادم بترجمانهم : قل لهم إنَّ أمير المؤمنين يقول لكم : اخرجوا ، فخرجوا مكتِّفين الأيدي على ظهورهم ، يمشون القهقرى حتى غابوا عنه ، ثم جاؤوا إلى منازلهم وأخذوا كل ما فيها ، وركبوا من ساعتهم وخرجوا ، فأمر الرشيد بترك التعرض لهم .
قال علي بن أحمد : والله لقد تبعهم خلق كثير من شيعة أبي الحسن (عليه السلام) فما وجدوا لهم أثراً ولا علموا أي طريق أخذوا (۱).