ومن مناظراته (عليه السلام) إظهار أسرار الخليقة ، وأسرار التكليف ، ولا عجب فهو مستودع سر الله عزّ وجلَّ ، وأحد تراجمة وحيه ، فلقد جرى بين الإمام الكاظم (عليه السلام) وهارون في المسجد الحرام ، عند الكعبة مناظرة ، خرج منها هارون خاسئاً منهزماً ، لا يدري جواباً كما روي في البحار عن مناقب ابن شهر آشوب أنّ الفضل بن الربيع ورجلاً آخر قالا :
حج هارون الرشيد وابتدأ بالطواف ، ومنعت العامة من ذلك ، لينفرد وحده ، فبينما هو في ذلك ، إذ ابتدر أعرابي البيت ، وجعل يطوف معه .
فقال الحاجب : تنع يا هذا عن وجه الخليفة ،
فانتهرهم الأعرابي وقال : إن الله ساوى بين الناس في هذا الموضع فقال {سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ} (۱)
فأمر الحاجب بالكف عنه ، فكلما طاف الرشيد طاف الأعرابي أمامه ، فنهض إلى الحجر الأسود ليقبله ، فسبقه الأعرابي إليه والتثمه ، ثم صار الرشيد إلى المقام ليصلي فيه ، فصلى الأعرابي أمامه .
فلما فرغ هارون من صلاته ، استدعى الأعرابي ، فقال الحجاب :
أجب أمير المؤمنين !!
فقال : ما لي إليه حاجة فأقوم إليه ، بل إن كانت الحاجة له فهو بالقيام إلي أولى ،
قال : صدق .
فمشى إليه وسلَّم عليه فرد عليه السلام ،
فقال هارون : أجلس يا أعرابي ؟
فقال : ما الموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس ، إنما هو بيت الله نصبه لعباده ، فان أحببت أن تجلس فاجلس ، وإن أحببت أن تنصرف فانصرف .
فجلس هارون ، وقال : ويحك يا أعرابي مثلك من يزاحم الملوك؟
قال : نعم وفيَّ مستمع !
قال : فإني سائلك فإن عجزت آذيتك
قال : سؤالك هذا سؤال متعلم أو سؤال متعنت ؟
قال : بل سؤال متعلم ،
قال : اجلس مكان السائل من المسؤول وسل ، وأنت مسؤول .
فقال هارون : أخبرني ما فرضك ؟
قال : إن الفرض رحمك الله واحد ، وخمسة ، وسبعة عشر ، وأربع وثلاثون ، وأربع وتسعون ، ومائة وثلاثة وخمسون ، على سبعة عشر ، ومن اثني عشر واحد ، ومن أربعين واحد ، ومن مأتين خمس ، ومن الدهر كله واحد ، وواحد بواحد .
قال : فضحك الرشيد
وقال : ويحك أسألك عن فرضك ، وأنت تعدّ عليَّ الحساب !؟
قال : أما علمت أن الدين كله حساب ، ولو لم يكن الدين حساباً ، لما اتخذ الله للخلائق حساباً ، ثم قرأ {وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} (١) .
قال : فبيّن لي ما قلت ، وإلا أمرت بقتلك بين الصفا والمروة .
فقال الحاجب : تهبه لله ولهذا المقام
قال : فضحك الأعرابي من قوله ،
فقال الرشيد : مم ضحكت يا أعرابي ؟
قال : تعجباً منكما ، إذ لا أدري من الأجهل منكما ، الذي يستوهب أجلاً قد حضر ، أو الذي استعجل أجلاً لم يحضر .
فقال الرشيد : فسر ما قلت .
قال : أما قولي الفرض واحد : فدين الإسلام كله واحد ، وعليه خمس صلوات ، وهي سبع عشرة ركعة ، وأربع وثلاثون سجدة ، وأربع وتسعون تكبيرة ، ومائة وثلاث وخمسون تسبيحة ،
وأما قولي من اثني عشر واحد : فصيام شهر رمضان من اثني عشر شهراً ،
وأما قولي : من الأربعين واحد فمن ملك أربعين ديناراً أوجب الله عليه ديناراً ،
وأما قولي : من مائتين خمسة فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم .
وأما قولي فمن الدهر كله واحد فحجة الإسلام ،
وأما قولي واحد من واحد فمن أهرق دماً من غير حق وجب إهراق دمه ، قال الله تعالى : {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (۱)
فقال الرشيد : لله درك ، وأعطاه بدرة .
فقال : فبمَ استوجبت منك هذه البدرة يا هارون بالكلام؟ أو بالمسألة؟
قال : بالكلام
قال : فإني سائلك عن مسألة ، فإن أتيت بها كانت البدرة لك تصدق بها في هذا الموضع الشريف ، وإن لم تجبني عنها أضفت إلى البدرة بدرة أُخرى ، لأتصدق بها على فقراء الحي من قومي .
فأمر بإيراد أخرى ، وقال : سل عما بدا لك .
فقال : أخبرني عن الخنفساء تزقّ ، أم ترضع ولدها ؟
فحرد (۲) هارون ، وقال : ويحك يا أعرابي مثلي من يسأل عن هذه المسألة ؟ !
فقال : سمعت ممن سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول :
من ولي أقواماً وهب له من العقل كعقولهم ، وأنت إمام هذه الأمة ، يجب أن لا تُسأل عن شيء من أمر دينك ، ومن الفرائض ، إلا أجبت عنها ، فهل عندك له الجواب؟.
قال هارون: رحمك الله لا ، فبيِّن لي ما قلته ، وخذ البدرتين .
فقال : إن الله تعالى لما خلق الأرض ، خلق دبابات الأرض ، الذي من غير فرث ، ولا دم خلقها من التراب ، وجعل رزقها وعيشها منه ، فإذا فارق الجنين أمه ، لم تزقه ولم ترضعه وكان عيشها من التراب .
فقال هارون : والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة ، وأخذ الأعرابي البدرتين وخرج ،
فتبعه بعض الناس ، وسأله عن اسمه ، فإذا هو موسى بن جعفر بن محمد ،
فأخبر هارون بذلك فقال : والله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة (١) .
وليس الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) يناظر المسلمين فحسب ، بل حتى غير المسلمين ، ويخبرهم بما هو أعلم به من أنفسهم ، فلا عجب لأنهم (عليهم السلام) عيبة علم الله تعالى .