عاش الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مع أبيه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عشرين سنة ، وفترة إمامته خمس وثلاثون سنة ، فمما يميز الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) عن بقية الأئمة (عليهم السلام) ، أنه قضى أكثر عمر إمامته في قعور طوامير السجون ، كان سلام الله عليه يتنقل من سجن إلى سجن ، مكبل اليدين والرجلين ، حتى أن خشخشة السلاسل تسمع عند مشيه سلام الله عليه ، كما في زيارته سلام الله عليه (والمعذب في قعر السجون ، وظُلَم المطامير ، ذي الساق المرضوض ، بحلق القيود) (۱) .
روي أنه لبث في سجن واحد من السجون إحدى عشرة سنة سلام الله عليه ، كما روى في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) قال حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن حاتم قال : حدثنا عبد الله بن بحر الشيباني قال : حدثني الخرزي أبو العباس بالكوفة قال : حدثنا الثوباني قال :
(كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بضع عشرة سنة ، كل يوم سجدة ، بعد انقضاض الشمس إلى وقت الزوال ، فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبو الحسن (عليه السلام) ، فكان يرى أبا الحسن (عليه السلام) ساجداً فقال للربيع :
يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع ؟!
فقال : يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب ، وإنما هو موسى بن جعفر (عليه السلام) ، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال .
قال الربيع : فقال لي هارون : أما إن هذا من رهبان بني هاشم
قلت : فما لك قد ضيقت عليه الحبس
قال : هيهات لا بد من ذلك!) (۱) .
ومع أن الإمام الكاظم أرواحنا فداه في السجن ، تجد الظلمة يشددون عليه الحراسة ، في عدة أبواب ، من باب إلى باب ، ومن قفل إلى قفل ، مع علمهم بأنه منشغل بالعبادة ، غير ملتفت إلى ضيق السجن وضنكه ، إلا أن العداوة والحقد والحسد يدفعهم إلى ذلك كما روي عن بشار مولى السندي بن شاهك ، قال :
(كنت من أشد الناس بغضاً لآل محمد ، فدعاني السندي يوماً ، فقال :
يا بشار ، إني أريد أن أئتمنك على ائتمنني عليه هارون .
قلت : إذاً لا أُبقي فيه غاية.
قال : هذا موسى بن جعفر قد دفعه إليّ ، وقد وكلتك بحفظه ، فجعلته في دار في جوف دور ، وكنت أُقفل عليه عدة أقفال ، فإذا مضيت في حاجة ، وكلت امرأتي بالباب ، لا تفارقه حتى أرجع .
قال بشار: «فحوَّل الله ما كان في قلبي من البغض حباً».
قال : فدعاني (عليه السلام) يوماً
فقال : «يا بشار ، احضر في سجن القنطرة ، وادعُ لي هند ابن الحجاج ، وقل له :
أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، فإنه ينتهرك ويصيح عليك ، فإذا فعل ذلك ، فقل له :
أنا قد قلت لك وأبلغت رسالته ، فإن شئت فافعل ، وإن شئت لا تفعل ، واتركه وانصرف» .
قال : ففعلت ما أمرني ، وأقفلت الأبواب كما كنت أُقفل ، وأقعدت امرأتي على الباب ، وقلت :
لا تبرحي حتى آتيك ، وقصدت إلى سجن القنطرة ، ودخلت على هند بن الحجاج ، وقلت له : أبو الحسن (عليه السلام) يأمرك بالمصير إليه ، فصاح علي وانتهرني،
فقلت له : قد أبلغتك فإن شئت فافعل ، وإن شئت لا تفعل ، وانصرفت وتركته .
وجئت إلى أبي الحسن (عليه السلام) ، فوجدت امرأتي قاعدة على الباب ، والأبواب مغلقة ، فلم أزل أفتح واحداً بعد واحد حتى وصلت إليه ، فأعلمته الخبر،
فقال: «نعم قد جاءني وانصرف» .
فخرجت إلى امرأتي ، فقلت لها :
هل جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب ؟
فقالت : لا والله ، ما فارقت الباب ، ولا فتحت الأقفال حتى جئت) (۱) .
فهند بن الحجاج من ضمن المسجونين في سجون هارون ، من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) ، فأتى به الإمام (عليه السلام) إلى سجنه ، عن طريق الإعجاز ليُظهر لهؤلاء أنه (عليه السلام) على ذلك قدير ، ولكنهم عباد مكرمون لا يسبقونه تعالى بالقول وهم بأمره يعملون .
حتى أنهم من ظلمهم للإمام موسى (عليه السلام) يضيقون عليه في كل شيء ، حتى أنه إذا احتاج إلى شيء من خارج السجن لا يسمحون له ، مع علمهم بأنه حجة الله تعالى ، فما يخرجونه من السجن إلا في حالتين فقط :
للطهور ، وإدخال الطعام،
مما يدل على أن السجن مثل القبر مجرد عن الخدمات تماماً ، كما روى الشيخ الصدوق في العيون عن علي بن محمد ابن سليمان النوفلي قال : سمعت أبي يقول :
(لما قبض الرشيد على موسى ابن جعفر (عليه السلام) ، قبض عليه وهو عند رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائماً يصلي ، فقطع عليه صلاته ، وحمل وهو يبكي ويقول :
«أشكو إليك يا رسول الله ما ألقى» ، وأقبل الناس من كل جانب يبكون ويصيحون ، فلما حمل إلى بين يدي الرشيد شتمه وجفاه ، فلما جنَّ عليه الليل أمر ببيتين ، فهيِّئا له ، فحمل موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى أحدهما في خفاء ، ودفعه إلى حسان السروي ، وأمره بأن يصير به في قبة إلى البصرة ، فيسلم إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر ، وهو أميرها ، ووجه قبة أُخرى علانية نهاراً إلى الكوفة معها جماعة ، ليعمى على الناس أمر موسى بن جعفر (عليه السلام) .
فقدم حسان البصرة قبل التروية بيوم ، فدفعه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر نهاراً علانية ، حتى عرف ذلك وشاع خبره ، فحبسه عيسى في بيت من بيوت المجلس الذي كان يجلس فيه ، وأقفل عليه وشغله عنه العيد ، فكان لا يفتح عنه الباب إلا في حالتين حال يخرج فيها إلى الطهور ، وحال يدخل إليه فيها الطعام) (١).