قصة فدك وحدودها

 قصة فدك وحدودها

لما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر في السنة السابعة للهجرة ، انتشر في العرب ما جرى على اليهود من شجاعة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) من قتل بطل العرب مرحب ، وقلع باب خيبر بيده المباركة ، ورميه أذرعاً ، ثم جعل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) باب خيبر الذي يفتحه أربع وأربعون رجلاً ترساً وطاساً بيده أرواحنا له الفداء .


قال ابن أبي الحديد :

يا قالع الباب الذي عن هزِّه 

عجزت أكفٌّ أربعون وأربع


ثم لما أراد معسكر المسلمين أن يعبروا الخندق ، وضع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) طرف الباب على حافة الخندق ، وقصر الباب عن الحافة الأُخرى للخندق ، فحمله بيده المباركة ، فعبر جيش المسلمين كله على يده أرواحنا له الفداء ، حتى ذهل العالم ، بل حتى الملائكة تعجبت من شجاعته (عليه السلام) .


حتى إنه لما أراد قلع الباب هزه بیده ، فاهتزت حصون اليهود ومدائنهم ، وكانت صفية بنت حييّ بن أخطب جالسة على سريرها ، ولما اهتزت الحصون وقعت على وجهها ، فلما اصطفاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه ، رأى في وجهها شجاً ، فسألها عن الشج؟ 

قالت لما هز علي (عليه السلام) الحصن ، وقعت لوجهي على الأرض وانشجَّ جبيني .


فوصل الخبر إلى أهل فدك من اليهود ، وهي تبعد عن خيبر ١٠ كلم ، وعن المدينة المنورة ۱۳۰ كلم ، فلم يكن عندهم إلا خيار واحد فقط وهو الاستسلام ، وإلا فعل بهم كما فعل بيهود خيبر ، وهذه الواقعة رواها جميع المؤرخين من العامة والخاصة .


ففدك من الأنفال ، والأنفال جمع نفل بسكون الفاء وفتحها وهي الزيادة ، ومنه سميت النافلة لزيادتها على المطلوب ، طلباً مانعاً من النقيض ، والمراد به هنا كل ما يخص الإمام فمنها كل أرض انجلى أهله فيها ، أو سلموها طوعاً بغير قتال ، وكل أرض خربة باد أهلها ، إذا كانت قد جرى عليها ملك أحد ، وكل خربة لم يجز عليها ملك أحد ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، والإيجاف السير السريع ، لقوله تعالى :

{وَما أَفاءَ اللَّـهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ} (۱)) (۲) .


فالأرض التي سلَّمت طوعاً هي فدك ، فهي من الأنفال ، وروي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سمعته يقول : 

(إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم ، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون ، فهذا كله من الفيء والأنفال لله وللرسول ، فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحب) (١) . 


لذا فالذي فتح فدكاً هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع علي أمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة فقط ، ولم يشترك معهما أحد مطلقاً من المسلمين ، كما رواها جميع المفسرين مطلقاً من العامة والخاصة ، كما في تفسير فرات بن إبراهيم : 

زيد بن محمد بن جعفر العلوي ، عن محمد بن مروان ، عن عبيد ابن يحيى ، عن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال : 

(لما نزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، شد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سلاحه وأسرج دابته ، وشد علي (عليه السلام) سلاحه وأسرج دابته ، ثم توجها في جوف الليل ـوعلي (عليه السلام) لا يعلم حيث يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ حتى انتهيا إلى فدك .


فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي ! تحملني أو أحملك ؟ .

فقال علي (عليه السلام) : أحملك يا رسول الله .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي! بل أنا أحملك ، لأني أطول بك ولا تطول بي.


فحمل علياً (عليه السلام) على كتفيه ، ثم قام به ، فلم يزل يطول به ، حتى علا عليّ سور الحصن ، فصعد علي (عليه السلام) على الحصن ومعه سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأذَّن على الحصن وكبَّر ، فابتدر أهل الحصن إلى باب الحصن هراباً ، حتى فتحوه وخرجوا منه ، فاستقبلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجمعهم ، ونزل علي إليهم ، فقتل علي (عليه السلام) ثمانية عشر من عظمائهم وكبرائهم ، وأعطى الباقون بأيديهم ، وساق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذراريهم ومن بقي منهم وغنائمهم يحملونها على رقابهم إلى المدينة ، فلم يوجف فيها غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهي له ولذريته خاصة دون المؤمنين) (١) ، 


فنزل قرآن في هذا قال تعالى :

{وَ ما أَفاءَ اللَّـهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّـهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّـهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّـهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّـهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (۲) .


روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : 

(أن رسول الله صلى الله عليه خرج في غزاة ، فلما انصرف راجعاً ، نزل في بعض الطريق ، فبينما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطعم والناس معه ، 

إذ أتاه جبرئيل فقال : يا محمد! قم فاركب ، 

فقام النبي فركب وجبرئيل معه ، فطويت له الأرض كطي الثوب حتى انتهى إلى فدك .


فلما سمع أهل فدك وقع الخيل ، ظنوا أن عدوهم قد جاءهم ، فغلقوا أبواب المدينة ، ودفعوا المفاتيح إلى عجوز لهم في بيت لهم خارج من المدينة ، ولحقوا برؤوس الجبال ، فأتى جبرئيل العجوز حتى أخذ المفاتيح ، ثم فتح أبواب المدينة ، ودار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيوتها وقرأها. 


فقال جبرئيل : يا محمد ! هذا ما خصك الله به وأعطاكه دون الناس ، وهو قوله تعالى : 

{ما أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 

[في] قوله : 

{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} ، 

ولم يعرف المسلمون ولم يطؤوها ، ولكن الله أفاءها على رسوله ، وطوف به جبرئيل في دورها وحيطانها ، وغلق الباب ودفع المفاتيح إليه . 


فجعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غلاف سيفه -وهو معلق بالرحل- ثم ركب ، وطويت له الأرض كطيّ الثوب ، ثم أتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم على مجالسهم ولم يتفرقوا ولم يبرحوا ، 

فقال رسول الله : قد انتهيت إلى فدك ، وإني قد أفاءها الله عليّ .


فغمز المنافقون بعضهم بعضاً ، 

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هذه مفاتيح فدك ، ثم أخرجها من غلاف سيفه ، 

ثم ركب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وركب معه الناس ، فلما دخل المدينة ، دخل على فاطمة (عليها السلام) ، 

فقال : يا بنية ! إن الله قد أفاء على أبيك بفدك واختصه بها ، فهي له خاصة دون المسلمين أفعل بها ما أشاء ، وإنه قد كان لأُمك خديجة على أبيك مهر ، وإن أباك قد جعلها لك بذلك ، وأنحلتكها لك ولولدك بعدك .


قال : فدعا بأديم ، ودعا علي بن أبي طالب، 

فقال: اكتب لفاطمة (عليها السلام) بفدك نحلة من رسول الله ، 

فشهد على ذلك علي بن أبي طالب ، ومولى لرسول الله ، وأُم أيمن ، 

فقال رسول الله إن أم أيمن امرأة من أهل الجنة ، 

وجاء أهل فدك إلى النبي ، فقاطعهم على أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة) (١) .


وفي مناقب ابن شهر آشوب : 

(نزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على فدك يحاربهم ، ثم قال لهم : 

وما يأمنكم أن تكونوا آمنين في هذا الحصن ، وأمضي إلى حصونكم فأفتحها ، 

فقالوا : إنها مقفلة ، وعليها من يمنع عنها ، ومفاتيحها عندنا .


فقال (عليه السلام) : إن مفاتيحها دفعت إليَّ ، ثم أخرجها وأراها القوم ، 

فاتهموا ديّانهم أنه صبأ إلى دين محمد ، ودفع المفاتيح إليه ، فحلف أن المفاتيح عنده ، وأنها في سفط في صندوق في بيت مقفل عليه ، فلما فتش عنها ففقدت ، 

قال الديان : لقد أحرزتها وقرأت عليها من التوراة ، وخشيت من سحره ، وأعلم الآن أنه ليس بساحر ، وأن أمره لعظيم. 


فرجعوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا : من أعطاكها ؟ 

قال : أعطاني الذي أعطى موسى الألواح : جبرئيل ، 

فتشهّد الديَّان ، ثم فتحوا الباب ، وخرجوا إلى رسول الله ، وأسلم من أسلم منهم ، فأقرهم في بيوتهم وأخذ منهم أخماسهم ، فنزل :

{وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} (۲) 

قال : وما هو ؟ 

قال : أعط فاطمة فدكاً ، وهي من ميراثها من أمها خديجة ، ومن أختها هند بنت أبي هالة ، 

فحمل إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أخذ منه ، وأخبرها بالآية ، 

فقالت : لست أحدث فيها حدثاً وأنت حيّ ، أنت أولى بي من نفسي ومالي لك .


فقال : أكره أن يجعلوها عليك سبّة (١) ، فيمنعوك إياها من بعدي ، 

فقالت : أنفذ فيها أمرك ، 

فجمع الناس إلى منزلها ، وأخبرهم أن هذا المال لفاطمة (عليها السلام) ، ففرقه فيهم ، وكان كل سنة كذلك ، وتأخذ منه قوتها ، فلما دنت وفاته دفعه إليها) (٢) .


فاستلمتها الصديقة فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، من السنة السابعة للهجرة إلى أن ارتحل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جوار ربه في السنة الحادية عشرة ، يعني ظلت فدك تحت تصرف الصديقة فاطمة (عليها السلام) أربع سنين ، ويأتيها خراجها من عاملها في فدك ، وما إن استلم أبو بكر بن أبي قحافة الخلافة ، حتى أخذ فدكاً منها غصباً ، كما يرويه جميع المؤرخين من العامة والخاصة ، ومع نزول نص من كتاب الله تعالى بأن فدكاً لفاطمة الزهراء (عليها السلام) قال تعالى :

{وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} (۳) ، وتصرفها في فدك أيام أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويأتيها خراجها من عاملها بمرأىً من جميع المسلمين ومسمع ، ومع ذلك غصبت !! وأُخذت فدك منها عنوة !!


وهذه الحادثة رواها أكثر المفسرين والمؤرخين من المسلمين كما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : 

(لما منع أبو بكر فاطمة (عليها السلام) فدكاً وأخرج منها وكيلها ، جاء أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى المسجد ، وأبو بكر جالس وحوله المهاجرون والأنصار ، فقال : 

يا أبا بكر ! لم منعتَ فاطمة ما جعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها ، ووكيلها فيه منذ سنين؟!


فقال أبو بكر : هذا فيء للمسلمين ، فإن أتت بشهود عدول ، وإلا فلا حق لها فيه .

قال : يا أبا بكر ! تحكم فينا بخلاف ما تحكم في المسلمين؟!

قال : لا .

قال : أخبرني لو كان في يد المسلمين شيء ، فادعيت أنا فيه ، من كنت تسأل البينة ؟

قال : إياك كنت أسأل .

قال : فإذا كان في يدي شيء ، فادعى فيه المسلمون ، تسألني فيه البينة ؟

قال : فسكت أبو بكر .

فقال عمر : هذا فيء للمسلمين ، ولسنا من خصومتك في شيء، 

فقال أمير المؤمنين له لأبي بكر : يا أبا بكر ! تقر بالقرآن؟

قال : بلى .

قال : أخبرني عن قول الله عز وجل : 

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (١) فينا أو في غيرنا نزلت؟

قال : فيكم .

قال : فأخبرني لو أن شاهدين من المسلمين ، شهدا على فاطمة (عليها السلام) بفاحشة ما كنت صانعاً ؟

قال : كنت أقيم عليها الحد ، كما أقيم على نساء المسلمين !!!

قال : كنت إذا عند الله من الكافرين .

قال : ولم ؟

قال : لأنك كنت تردّ شهادة الله ، وتقبل شهادة غيره ، لأن الله عزَّ وجلَّ قد شهد لها بالطهارة ، فإذا رددت شهادة الله ، وقبلت شهادة غيره ، كنت عند الله من الكافرين .

قال : فبكى الناس ، وتفرقوا ، ودمدموا .


فلما رجع أبو بكر إلى منزله بعث إلى عمر ، فقال: 

ويحك يابن الخطاب ! أما رأيت علياً وما فعل بنا ؟ والله لئن قعد مقعداً آخر ليفسدن هذا الأمر علينا ، ولا نتهنأ بشيء ما دام حياً .


قال عمر : ما له إلا خالد بن الوليد ، فبعثوا إليه،  

فقال له أبو بكر : نريد أن نحملك على أمر عظيم .

قال : احملني على ما شئت ولو على قتل علي .

قال : فهو قتل علي .

قال : فصر بجنبه ، فإذا أنا سلمت فاضرب عنقه ، 

فبعثت أسماء بنت عميس -وهي أم محمد بن أبي بكر- خادمتها ، 

فقالت : اذهبي إلى فاطمة فاقرئيها السلام ، فإذا دخلت من الباب فقولي : 

{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (١) 

فإن فهمتها وإلا فأعيديها مرة أخرى .


فجاءت فدخلت ، وقالت : 

إن مولاتي تقول يا بنت رسول الله كيف أنت؟ ثم قرأت هذه الآية : {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}، 

فلما أرادت أن تخرج قرأتها ، 

فقال لها أمير المؤمنين علي : اقرئيها السلام ، وقولي لها : إن الله عزَّ وجلَّ يحول بينهم وبين ما يريدون إن شاء الله . 


فوقف خالد بن الوليد بجنبه ، فلما أراد أن يسلّم لم يسلّم، و قال : يا خالد ! لا تفعل ما أمرتك ، السلام عليكم . 

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ما هذا الذي أمرك به ثم نهاك قبل أن يسلم ؟

قال : أمرني بضرب عنقك ، وإنما أمرني بعد التسليم.

فقال : وكنت فاعلاً؟

فقال : إي والله ، لو لم ينهني لفعلت .


قال : فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخذ بمجامع ثوب خالد ، ثم ضرب به الحائط ، وقال لعمر : 

يابن صهاك ! والله لولا عهد من رسول الله ، وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف جنداً وأقل عدداً) (۱) .


ومع أن الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسيدة نساء العالمين ، حاججت أبا بكر لإلقاء الحجة عليه لعلَّ وعسى ، كما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : 

(دخلت فاطمة (عليه السلام) بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على أبي بكر ، فسألته فدكاً ، 

قال : النبي لا يورث ، 

فقالت : قد قال الله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}(۱) ، 

فلما حجَّته أمر أن يكتب لها ، وشهد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأُم أيمن .


قال : فخرجت فاطمة (عليها السلام) ، فاستقبلها عمر ، 

فقال : من أين جئت يا بنت رسول الله؟ 

قالت : من عند أبي بكر في شأن فدك ، قد كتب لي بها، 

فقال عمر : هاتي الكتاب ، فأعطته فبصق فيه ومحاه ، عجل الله جزاه .


فاستقبلها علي (عليه السلام) فقال : ما لك يا بنت رسول الله غضبى ؟! فذكرت له ما صنع عمر، 

فقال : ما ركبوا مني ومن أبيك أعظم من هذا، 

فمرضت فجاءا يعودانها فلم تأذن لهما ، فجاءا ثانية من الغد ، فأقسم عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) فأذنت لهما ، فدخلا عليها ، فسلَّما ، فردت ضعيفاً ، ثم قالت لهما : 

سألتكما بالله الذي لا إله إلا هو ، أسمعتما بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقي : 

من آذى فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ؟ 

قالا : اللهم نعم ، 

قالت : فأشهد أنكما قد آذيتماني) (٢) .


وأخرج عاملها منها ، وطالبت الصديقة بفدك ، فلم يسمع كلامها (عليها السلام) ، وظلت فدك مغصوبة من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى نهاية الدولة الأموية زمن عمر بن عبد العزيز ، فدفع فدكاً إلى بني هاشم ، ورفع سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من فوق منابر المسلمين قاطبة ، لأن معاوية وجَّه أمراً لجميع ممالك الدولة الإسلامية ، بسبّ علي (عليه السلام) من فوق المنابر .


ثم لما جاءت الدولة العباسية غصبت فدك مرة ثانية ، إلى الآن في القرن الخامس عشر الهجري ، لم ترجع فدك إلى أهلها بني هاشم ، وهذا أمر مجمع عليه عند الكل فأصبحت فدك في غصبيتها ، مثل الخلافة الإسلامية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كانت لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ، كما في حديث الغدير 

(من كنت مولاه فعلي مولاه) (۱) 

الذي أجمع عليه جميع فرق المسلمين قاطبة ، لذا هارون العباسي لما قال للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) خذ فدكاً ، قال الإمام الكاظم (عليه السلام) :

«لا آخذها إلا بحدودها» ، 

ومعنى كلام الإمام الكاظم (عليه السلام) إذا أخذتها ولم ترجع الخلافة إلى أصحابها الذين نصّ عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يأخذها حاكم آخر غير هارون ، كما ارتجعت في زمن خلافة عمر بن عبد العزيز الأموي ، ثم غصبت مرة أُخرى ، وحدود فدك هي محل ومكان ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ، على الكرة الأرضية ظاهراً ، وإلا ولايتهم على جميع الخلائق ، كما أن الله رب العالمين ، كذلك رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو نبيّ العالمين ، وكذا يكون أوصياؤه (عليهم السلام) أئمة على العالمين لذا لما أراد هارون أن يرجع فدكاً إلى الإمام موسى (عليه السلام) ، قال له الإمام (عليه السلام) بحدودها ، وهي أولاً إرجاع الولاية إلى أصحابها ، وإذا أُرجعت الولاية إلى أصحابها ، ترجع فدك ضمناً مع الولاية ، كما جرى بين الإمام الكاظم (عليه السلام) وهارون كما روى المؤرخون وكتب الأحاديث ، أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر (عليه السلام) : 

خذ فدكاً حتى أردها إليك ، فأبى حتى ألحَّ عليه ، 

فقال له : «لا آخذها إلا بحدودها» ، 

قال : وما حدودها ؟ 

قال : إن حددتُها لم تردها ؟ 

قال : بحق جدك إلا فعلت ، 

قال : أما الحد الأول فعدن ، 

فتغير وجه الرشيد وقال : إيهاً ، 

قال : والحد الثاني سمرقند، 

فأربد وجهه. 

والحد الثالث إفريقية، 

فاسود وجهه ، 

وقال : هيه . 

قال : والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية، 

قال الرشيد : فلم يبق لنا شيء ، فتحول إلى مجلسي، 

قال موسى : قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردَّها، 

فعند ذلك عزم على قتله . 


وفي رواية ابن أسباط أنه قال : 

أما الحد الأول فـعـريـش مـصـر ، والثاني دومة الجندل ، والثالث أحد ، والرابع سيف البحر .

فقال : هذا كله ؟ هذه الدنيا ! 

فقال : هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة ، فأفاءه الله على رسوله ، بلا خيل ولا ركاب ، فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة (عليها السلام) (١) .


وفي رواية أُخرى مع المهدي العباسي والد هارون ، ذكر الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) له تمليك الصديقة فاطمة (عليها السلام) فدكاً زمن أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لما ورد أبو الحسن موسى (عليه السلام) على المهدي رآه يردّ المظالم فقال : 

يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا تردّ ؟ 

فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن؟ 

قال : إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فدكاً وما والاها ، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله على نبيه {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} (۲) فلم يدرِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل (عليه السلام) ربه ، فأوحى الله إليه أن ادفع فدكاً إلى فاطمة (عليها السلام) ، فدعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، 

فقال لها : يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك، 

فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. 

فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه ، فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها ، فأتته فسألته أن يردّها عليها ، فقال لها : 

ائتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، 

فجاءت بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأم أيمن فشهدا لها ، فكتب لها بترك التعرض ، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر ، فقال : 

ما هذا معك يا بنت محمد ؟ 

قالت كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، 

قال : أرينيه فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه ، ثم تفل فيه ، ومحاه وخرقه، فقال لها : 

هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ؟ فضعي الحبال في رقابنا


فقال له المهدي : يا أبا الحسن حدَّها لي، 

فقال : حدٌّ منها جبل أحد ، وحد منها عريش مصر ، وحد منها سيف البحر ، وحد منها دومة الجندل، 

فقال له : كل هذا ؟ 

قال : نعم يا أمير المؤمنين ، هذا كله ، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بخيل ولا ركاب،

فقال : كثير ، وأنظر فيه) (١) .


فالإمام الكاظم (عليه السلام) أشار إلى حكومة هارون العباسي آنذاك ، والمراد جميع الأرض هي لهم وملكهم ، بل الوجود كله لهم (عليهم السلام) ، وما خلق الخلق إلا كرامة لهم ولأجلهم سلام الله عليهم ، روي عن الحسين ، عن إسحاق بن عمار ، وأبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : 

(إن الله (تعالى) أمهر فاطمة (عليها السلام) ربع الدنيا ، فربعها لها ، وأمهرها الجنة والنار ، تدخل أعداءها النار ، وتدخل أولياءها الجنة ، وهي الصديقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الأول) (۱) . 


المعروف أن الكرة الأرضية ثلاثة أرباعها مياه ، وربعها يابسة ، ومهر الصديقة فاطمة ربع الدنيا ، يعني جميع الدنيا التي يسكن فيها البشر ، فهي ملك للصديقة فاطمة (عليها السلام) ، وهذا كما ذكر في الظاهر ، وأما في الباطن فكل الوجود لهم ، وما خلق الخلق إلا لأجلهم (عليهم السلام) ، كما نطقت به الروايات من العامة والخاصة ، بل الله عزَّ وجلَّ جعل محبتهم أجر رسالته ، ومن لم يحبَّهم لم يدخل في الإسلام ، بل هو منافق سارق مدَّعِ للإسلام ، 

{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}(٢)


فأهل البيت (عليهم السلام) -وأولهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام)ـ هم أهل القربى الذين أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعتهم ومحبتهم ، وهم الثقل الثاني للقرآن ، كما روى علماء العامة منهم أحمد بن حنبل وغيره قال : 

حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو إسرائيل -يعني إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي- عن عطية عن أبي سعيد قال : 

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :

(إني تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (۳) .


وهنا نذكر بعض فضائل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، من كتب إخواننا السنة تبركاً وتيمناً ، لأنَّ البعض - بل الأكثر - لا سيَّما في وقتنا الحالي ، لا يقرأ ولا يفقه إلا القليل من الدين والتأريخ ، من باب فذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .