وأما أصنافهم فكثيرة جداً ، وقد روى عن الصادق (ع) : «إن الإنس عشر الجن وهم أنواع لا تحصى (٥)» (٦)
وقد ذكر شيخنا وأستاذنا وسنادنا (شيخنا وأستادنا خل) أعلى الله مقامه ، ورفع الدارين أعلامه ، في كشكوله قال احمد بن فارس ، حدثني بعض الثقات عن وهب بن منبه (۷) اليماني ، قال قرأت سبعين كتاباً ، مما أنزل الله على أنبيائه ، فوجدت فيها كلها ، أن أول خلق خلقهم الله اليانون ، وهم ألف أمة ، وكل أمة ألف ألف سبط ، وكل سبط ألف ألف فخذ ، وكل فخذ ألف ألف شخص ، وأن الله (١) لما خلقهم وأسكنهم الأرض ، عهد إليهم عهداً وميثاقاً الا يعصوه طرفة عين ، وخلق لهم نبياً اسمه يوسف ابن يانان ، وأمرهم أن لا يعصوه ، ولا يخالفوه ، وإن خالفوه أهلكهم الله ، فلم يزالوا سامعين مطعين مئة حقب ، لم يخالفوه عن أمر ولا نهى ، وكان مغرماً بكثرتهم ، وما هم في عدد آناء الليل وأطراف النهار ، متفكراً في كثرتهم ، وما أعطوهم من الكثرة ، وكيف يرزقهم ، ومن أين يرزقهم ، فأوحى الله إليه ، يا ابن يانان اشتغلت حتى تخوض في أهون الأشياء فوعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ، ما هم عندي إلا كلمح البصر ، ولكن اخرج إلى الجبل ، فخرج يوسف إلى حيث أمر ، فلما جاء بين الجبل ، كشف له الغطاء عما خلف الجبل من العالمين ، فنظر إلى آخر مد البصر عرضاً وطولاً ، فنظر في وسطه بياضاً ، ورأى قوماً يموجون مثل الموج المرتطم ، بعضهم في بعض ، ويصيحون إلى الله تعالى بصوت لو سمعه أهل الدنيا لماتوا منه (٢) فلما رآهم يوسف غشي عليه من ذلك ، فلما أفاق من غشوته ، قال سبحانك اللهم وبحمدك ، ما هذا الخلق وما يقال لهم؟ فأوحى إليه يا ابن يانان!! انظر إلى الشرق ، فنظر فإذا (۳) سواد أعظم من الأول سبعين ألف ضعف ، وفي وسطه شيء يطفي كالحبابة على البحر الأسود الحديث .
وفي كتاب عجايب المخلوقات ، أن الله سبحانه (١) لما سخر الجن لسليمان بن داود (ع) ، فخرجت الجن والشياطين من المغارات ، من الجبال والآكام والأدوية والفلوات والآجام ، وهي تقول لبيك لبيك تسوقها الملائكة ، سوق الراعي غنمه ، حتى حشرت لسليمان طائفة ذليلة ، وهي يومئذ أربعمئة وعشرون فرقة .
وبالجملة أصنافهم كثيرة ، وأنواعهم غير عديدة ، وها أنا أذكر لك بعض ما وصل إلينا من أسماء (٢) أجناسهم ، مما ذكره شيخنا الأستاد ، ومولانا السناد ، وسيدنا العماد ، أفاض الله بركاته على العباد والبلاد ، فإن استقصاء جميع الأصناف مما لا يمكن لنا ، لما بنا من قلة الاستعداد ، وعدم استعمال الفؤاد .
فمن اصنافهم الشيصبان وساجيا وذربا ومسمار وديهش وزوبعة وزيفة وصبضار وسمدون (۳) وصعصعة وقيراط (٤) ورباح وسلاهب واصعر (٥) وسلهاب ومذهب وعمر ومنسوبة والرها وهصهط وبهرام وطايوس (٦) وسهیل (۷) وقابوس وزمار (۸) ، وفروه (۱) وفره وسرباط وقاطرس ورهار (۲) وعافر وعسرج وعصيطح ونهرس ونهروس والبطهر (۳) ومهلب ومهيل والحارب والحويرب (٤) وعيص والحريص والهرسم وبهرز ونعمان ولصيق (٥) وعريس وعوش (٦) وطهار وفرطس والسامر (۷) والهائم ولا قيس (۸) وبهيم والهام وعيص والاقبض وهامة بن الاقبض ويلدون ودفليس والخطاب وشبر (۹) وعاديس وسليمان وقيداس وبشر وعليس وفوة وكيده وطرقه ويمه ورفه (۱۰) وغفسه وشقيقه وقلنا (۱۱) وسرحوب وغير ذلك من أسماء اجناسهم وهو كثيرون لا يحصى عدد كل جنس منهم ، إلا من أشهده الله خلق السموات والأرض ، وجعلهم أعضاداً لخلقه .
وقول مولانا الصادق (ع) : «إن الإنس عشر الجن» (١٢) يريد باعتبار المرتبة ، فإن نسبة الجن إلى الإنس نسبة (۱) العشرات إلى الآحاد ، وإلا فمن حيث العدد لا يحصى كثرة ، ونسبة الجن إلى الإنس في القلة والكثرة ، نسبة الأنبياء المعدودين بمئة ألف وأربعة وعشرين ألف إلى الإنسان الرعية ، الذين لا يحصي عددهم ولا يتناهى فإن (٢) كلما قرب إلى المبدأ قرب إلى الوحدة ، فجهات الكثرة عليها مخفية مضمحلة ، وكلما بعد عن المبدأ قرب إلى الكثرة وجهات الكثرة ، ظاهرة غير مستترة ، انظر نسبة الآحاد إلى العشرات ، وهي إلى المئات وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وما ذكرنا من الأجناس والأصناف هو اختلاف (۳) بحسب مقاماتهم الذاتية ، ومراتبهم الحقيقية ، مما تقتضى الشؤونات المستجنة في سرائرهم .
ولهم مراتب بحسب تعلقات ظواهرهم ، باعتبار الأمور العرضية الغير الذاتية ، كالهواء فإنه (٤) حار رطب ، في مقام ذاته وحقيقته ، وأما باعتبار العوارض الخارجة ، فانه ينقسم إلى جنوب وشمال وصباء ودبور ، فالأول حار رطب ، والثاني بارد يابس ، والثالث بارد رطب ، والرابع حار يابس ، مع أن طبيعة الهواء واحدة ، ومزاجه غير متعدد ، وإنما لحقت (٥) هذه الكيفيات باعتبار النواحي والجهات الخارجة ، العارضة للطاقة ذاته ، ينصبغ بصبغ ما يجاوره ، فكذلك الجن ، فإنهم (۱) الطف من الهواء ، لغلبة النارية المقتضية للطافة الحالة (٢) فيه ، فتعتريهم تلك الأحوال ، بحسب العوارض الخارجية ، من اقتضاء الحدود العرضية ، وقد نص على ذلك مولانا الصادق (ع) على ما رواه في البحار إلى أن قال فقال السائل كيف صعدت الشياطين إلى السماء؟ وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون (۳) لسليمان بن داود (ع) من البناء ما (٤) يعجز عنه ولد آدم قال (ع) : «غلظوا لسليمان ، كما سخروا وهم خلق رقيق ، غذاؤهم التنسم» (٥) .
والدليل على ذلك صعودهم إلى السماء ، لاستراق السمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها ، إلا بسلم أو سبب (٦) فالجن بحسب تلك العوارض المختلفة ، تختلف على أصناف .
فمنهم : من يغلب (۷) عليهم جهة الهواء فيسكنون فيه ، ومنهم (۸) من يغلب عليهم (۹) جهة الماء فيسكنون في الماء ، ومنهم من يغلب عليهم (١٠) جهة التراب فيسكنون فيه .
ويقال (۱) إنهم أصناف صنف هم (۲) سكنه كرة النار ، كما هو مقتضى أصل وجودهم ، وصنف هم سكنة الهواء (۳) لغلبة الرطوبات ، وصنف هم سكنة الماء للمناسبة العرضية ، وصنف هم سكنة التراب كذلك (٤) .
ولذا ترى من هاجت عليه المرة الصفراء غلبته (٥) على مزاجه ، فإذا مر به جني من سكان كرة النار ، وجد له محلاً مناسباً تعلق به ، فإذا تعدلت الطبيعة ، وذهب هيجان تلك المرة ، لا يجد محلاً لاستقراره فيذهب ، وهكذا سكان الهواء والماء والتراب ، يتعلقون بمن هاج عليه الدم والبلغم والسوداء (٦) ، ويذهبون عنه (۷) تعديل المزاج ، ولذا يؤثر فيهم الرقى ، وعلاج الطبيب فافهم .
ويدل على هذه الأصناف روايات كثيرة ، منها ما رواه على بن إبراهيم في تفسيره [انه لما تزوج سليمان (ع) بفاليحا (۸) ولد منها ابن ، وكان يحبه إلى أن قال (ع) للجن :
«هل لكم حيلة في أن تفروه من الموت ،
فقال منهم واحد ، أنا أضعه تحت عين الشمس في المشرق ،
قال سلیمان (ع) : إن ملك الموت يخرج ما بين المشرق والمغرب ،
وقال واحد منهم أنا أضعه في الأرض (۱) السابعة ،
فقال (ع) : إن ملك الموت يبلغ ذلك ،
وقال آخر أنا أضعه في السحاب والهواء ، فرفعه ووضعه على السحاب ، فجاء ملك الموت فقبض روحه (۲) في السحاب ، فوقع جسده ميتا على كرسي سليمان ... » (۳) الحديث ، وإنما رضي سليمان (ع) برفع ابنه في الهواء ، لتضاد طبيعة الهواء مع طبيعة الموت ، نظر (٤) إلى ملاحظة الأسباب ، حيث إن الله سبحانه أبى أن يجري الأشياء إلا بأسبابها ، كما يشرب المريض الدواء ، وحيث إن مقام الأنبياء يقتضي قطع النظر عن الأسباب ، ومشاهدة المسبب عوئب (٥) على ذلك ، وقال سبحانه (٦) :
{وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ} (۷)
ومنها ما رواه في مشارق الأنوار في تفسير قوله تعالى : {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (۸) … والحديث طويل من أراده فليطلب ثمة .