وأما كيفية تكليفهم ، فهي أن الله سبحانه وتعالى قبل خلق آدم (ع) بعث إليهم نبياً اسمه يوسف بن يانان ، كما في البحار عن العلل والعيون بالإسناد عن الرضا (ع) عن آبائه (ع) ، قال : «سأل الشامي (١) أمير المؤمنين (ع) عن اسم أبي الجن فقال شومان (۲) وهو الذي خلق من مارج من نار ، وسأله هل بعث الله نبياً إلى الجن ،
فقال (ع) : نعم بعث إليهم نبياً يقال له يوسف ، فدعاهم إلى الله عز وجل فقتلوه» (۳)
وهذا كان مبعوثاً عليهم قبل أن يخلق آدم ، كما سيمر عليك ذكر ما يدل عليه في ما بعد ، ثم بعد ما خلق الله آدم (ع) ، بعث إليهم الأنبياء من سنخهم لكنهم (٤) يأخذون من بني آدم من الأنبياء المبعوثين إليهم ، كما يدل عليه قوله تعالى:
{فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (٥)
وهو قوله تعالى :
{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} (٦) الآية .
ولما أن الله سبحانه أتقن صنع كل شيء ، وجب أن يكون نبي الجن متلقياً (١) من نبي الإنس لبطلان الطفرة ، فقد يكون ذلك من ظاهرية نبي الإنس كما سبق في الآية الشريفة ، وقد يكون من باطنه دون ظاهره ، والأول كما كان في نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنهم كانوا يأتون إليه ، ويتلقون منه (صلى الله عليه وآله وسلم) كجن النصيبين ، وبئر ذات العلم (٢) .
وبالجملة كافة الجن بجميع مراتبهم وأطوارهم ، كانوا يأخذون منه (صلى الله عليه وآله وسلم) كالموجودات كلها ، فانه مبعوث على كافة الحوادث لقوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (۳) .
وقد قال الطبرسي في مجمع البيان ، أنه ما بعث على الجن من الأنبياء (١) غير نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليس ببعيد وقوله تعالى حكاية عن جن نصيبين {إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً} (١) لا يدل على أن موسى على نبينا وآله وعليه السلام كان مبعوثاً عليهم ، كما في الإنس ، لإن الإنس كانوا كلهم (٢) عاملين بشريعة موسى على نبينا وآله وعليه السلام ، قبل أن تنسخ ، ولم يكن موسى (ع) مبعوثاً إلا على بني إسرائيل خاصة وكذلك (۳) الجن كانوا عاملين بشريعته ، ولم يكن مبعوثاً عليهم ، لأن عموم البعثة غير عموم الشريعة ، ولا اجتمعا إلا في نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقولي هذا لا يدل على عدم لزوم توسط الإنس ، في إيصال الفيض إلا إلى الجن في كل حالة ، لأنه (٤) منه إيصال الوحي ، فإن واسطة الإنس لا بد منها في الحقيقة ، ولا يمكن أن يوصل إليهم شيء إلا بواسطة الإنس في الحقيقة والذات ، لبطلان الطفرة ، وإنما الكلام في ظاهر البشرية ، في مقام {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} (٥) وقوله تعالى :
{وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} .
وبالجملة فإن نبي الجن ، يستمد من نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل وقت وأوان ، قبل وجود آدم وبعد وجود آدم ، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يمده من الفيض الإلهي في التكويني والتشريعي (۷) بيده ، وتلك اليد حقيقة الإنسان من حيث هي ، لا خصوص الأفراد والأشخاص ، فعلى هذا جاز أن يكون استمداد أنبياء الجن مخصوصاً بنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كاختصاصه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإمداد سائر الموجدات حرفاً بحرف ، وذلك لكلية بشريته دون سائر الأنبياء .
والحاصل أن الله سبحانه (۱) بعث إليهم الأنبياء ، وكلفهم بالأصول والفروع .
أما الأصول فهم مكلفون بما كلف به الإنسان ، في (٢) الإعتقادات من التوحيد (والعدل) والنبوة والإمامة والمعاد ، وأحكامه وأطواره من النشر والحشر (۳) والحساب والميزان والصراط والجنة والنار ، إلا أن تكليفهم في هذه الإعتقادات على نحو التبعية ، فالإنس اعتقادهم بالأصول والألباب ، والجن اعتقادهم بالقشور والصفات ، ولذا كانت جنتهم الحظاير ، وهي من شعاع جنة الإنس ، ونارهم الحظاير أيضاً ، وهي ظل للنيران (٤) التي أعدت للإنس .
فمعرفتهم بالتوحيد فرع معرفة الإنس (٥) وكذا معرفة أركان التوحيد ومظاهره ، وحملته وأبوابه وخزانه ، فحيث كانوا مكلفين باعتقاد هذه الأصول ، اختلفت أديانهم ومذاهبهم بحسب اختلافهم في الإعتقادات ففيهم اليهود والنصارى والزنادقة ، وعبدة الأوثان والنواصب ، ومنكري (١) فضائل أهل البيت (ع) ، ويشير إلى ما ذكرنا قوله تعالى حكاية عنهم : {إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى} (٢) الآية ، وفيها دلالة واضحة بأنهم كانوا من اليهود ، وفي تفسير علي بن ابراهيم قال الجن من ولد الجان ، منهم مؤمنون وكافرون ، ويهود ونصارى ، وتختلف أديانهم ولا ريب أن هذا الاختلاف بحسب اختلاف ما يلزمهم من العقايد في التوحيد والنبوة والولاية ، وأركانها وحدودها .
وأما تكلفيهم في الفروع (۳) فهو مثل تكليف الإنسان في النوع ، ولكن تختلف أحكام فروعهم بحسب اختلاف الموضوعات ، كما اختلف في الإنسان إذا اختلف (٤) الموضوع كالصلاة الواجبة عليه ، إذا كان في الحضر أو (٥) السفر أو (٦) الخوف أو (۷) المرض أو (۸) غير ذلك من الأحوال الجارية عليه ، التي بسببها (۹) تختلف أحكام تكليفهم ، باعتبار اختلاف تلك الموضوعات ، والعلم بتلك التفاصيل لا يمكن إلا لمن أشهده الله خلق السموات والأرض وخلقه (۱۰) نفسه ، كالإنسان حرفاً بحرف .
ولذا ترى أن الهواء والنار لا يتنجسان ، بهذه النجاسات العشر ، وقد عرفت بدلالة الأخبار والآيات ، أن الجن خلقوا من النار والسموم (١) فيجب أن لا يتنجسوا بهذه النجاسات .
وكذلك الطهارات ، إنما تطهر الأجسام الكثيفة ، والجن أجسام لطيفة ، فلا تجرى عليهم (۲) أحكام الطهارات والنجاسات التي للإنس ، فلهم طهارة ونجاسة غير ما هو المعروف عند الإنس ، نعم نجاسة الكفر تسرى فيهم (۳) وتنجسهم ، كالإنس ، فقد أشرت لك نوع المسالة ، فتتبع واستخرج جزئياتها ، فإنا نلقى إليكم (٤) الأصول ، وعليكم التفريع .