وأما نهاية ترقيهم فلا نهاية لها ، لإن (٤) الله سبحانه وتعالى خلق الجن (٥) للبقاء دون الفناء ، وإنما ينقـلـهـم مـن دار (٦) إلى دار ، لاستكمالهم وترقيهم صعوداً ونزولاً ، لإن السكون في الإمكان محال ، والبقاء بدون الترقي بعد رفع الموانع محال آخر ، لإن الله سبحانه وتعالى لا يختار إلا ما هو الأكمل ، ولا شك أن الكمال وعدم وقوفه إلى حد أشرف من النقصان ، وهو سبحانه وتعالى لا يترك الأولى ، فقال تعالى في الحديث القدسي :
«كلما رفعت لهم علماً وضعت لهم حلماً ليس لمحبتي غاية ... الخ» (۷) (انتهى خ ل) فلا تنتهي ترقياتهم إلى حد ينقطعون دونه ، كلا وحاشا (١) أما سمعت أن من ضرورة الإسلام أن الجنة والنار لا تفنيان أبداً ، وكلما تطول المداء ، يزداد أهلهما (۲) نعيماً وأليما ، فأين الوقوف وعدم الترقي؟ فان كان مرادهم في الدنيا فكذلك ، لإن بذر المعرفة إذا تزرع (۳) في أرض القلب تخرج شجرة ، {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (٤) ، وهي الشجرة الطيبة التي {أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} (٥) وكذلك بذر الإنكار إذا تزرع (٦) في قلب ، وسقي ماء حميم ، من الوساوس والشكوك والشبهات ، تخرج شجرة في أصل الجحيم {طَلْعُها كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّياطِينِ} (٧) فآكلون (۸) منها ، فمالئون منها البطون .
وبالجملة فترقيهم لا نهاية له ولا غاية ، ولكن فليكن عندك معلوم ، أن الجن بجميع الترقيات الغير المتناهية ، لا يصلون إلى مقام الإنس بحال من الأحوال ، بل ولا إلى جزء من مئة ألف جزء من رأس الشعير ، من مقامات الإنس ومراتبهم ، لاستحالة وصول الشعاع إلى مقام المنير ، والفرع إلى رتبة الأصل (۱) وهم يترقون إلى ما لا نهاية له ، ولكنهم في رتبة مقامهم ، وقد قال عز وجل : {وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} (٢) ويستحيل الترقي أن يكون في السلسلة الطولية ، وإلا جاز للممكن أن يكون واجباً ، والضرورة قضت ببطلانه ، انظر إلى ترقي الجماد الميت ، إلى أن صار إكسيراً فعالاً ، يطرح الواحد على العشرة (۳) ثم يترقى إلى أن يطرح على المئة ، ثم إلى الألف وهكذا ، لكنه لا يصعد عن مقام الجماد ، ولا يصل إلى مقام الحيوان ، وما يتراءى في بادي النظر فانه ليس كذلك ، وإن قال بعضهم فانه كلام قشري ، إن الجماد يكون نباتاً ، والنبات يكون حيواناً ، والحيوان يكون إنساناً ، وهو كلام قشري لا تحقيقي ، فان الجماد لم يكن نباتاً ، وإنما صار محلاً (٤) لظهور النبات كالمرآة صالحة (٥) لإظهار مثال الشمس ، فلا يقال إن المرآة كانت نوراً أو كانت شمساً ، فاعتبر بذلك جميع المراتب والمقامات ، فالجن يترقون في مقامهم بلا نهاية ولا حد لذلك ، والإنس كذلك في مقامهم ، وحقيقة الأنبياء في مقامها ، والحقيقة المحمدية صلى الله عليها في مقامها ، وهكذا الأشياء تدور وتسير كل في مركزه بلا نهاية ، وإنما رددت (٦) وكررته للتفهيم .