وأما كيفية سلوكهم مع الإنس ، فإنهم في ذاتهم وحقيقتهم خدام للإنس ، لإنهم مخلوقون من شعاع نورهم ، والشعاع يدور مع المنير ، وأما في مقام تنزل الإنس ، واجتماعهم في رتبتهم ، فالمؤمنون منهم مطيعون للإنس ، وأما الكفار المتمردة فهؤلاء هم أعداء (٣) الإنس ومبغضوهم ، يتعرضون لأذيتهم وإيذائهم ، ويترصدون لهم المراصد ، ولكن الله سبحانه ألجمهم بلجام المنع ، ومنعهم عن إيذاء الإنس أشد المنع ، وجعل لهم معقبات من الملائكة محيطة بهم ، من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم أي الإنس من شرهم ، وإذائهم وأولئك الملائكة المعقبات ، صادرون من أمر الله ، وهذا الحفظ يعم المؤمن والكافر ، أما المؤمن فلإكمال النعمة لهم ، وأما الكافر فلإتمام الحجة عليهم وليكيدهم ، من قوله تعالى : {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .
ولإتمام قوله تعالى :
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} (۲) فإذا بلغ الكتاب أجله ، ونالوا نصيبهم من الكتاب ، يجري قضاء الله وقدره بما يشاء كيف يشاء بما يشاء (۳) فلولا دفع الله عن المؤمنين لأهلكتهم الجن ، وإليه يشير قول مولانا الحجة عجل الله فرجة في توقيعه إلى المفيد (٤) :
«إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لا صطلمتكم اللأواء وأحاطت بكم الأعداء» (٥) وهي جمع محلى باللام يريد جميع الأعداء (٦) من الإنس والجن وهو (ع) حجاب الله الأكبر ، وفي البحار عن العلل بالإسناد عن أبي جعفر (ع) قال : قال أمير المؤمنين (ع) :
«إن الله تبارك وتعالى لما أحب أن يخلق خلقاً بيده ، فذلك بعد ما مضى (۷) الجن والنسناس في الأرض سبعة آلاف سنة ، قال ولما كان من شأن (٨) الله أن يخلق آدم للذي أراد من التدبير والتقدير لما هو مكونه (۱) في السموات والأرض ، وعلمه لما أراد من ذلك كله ، كشط عن أطباق السموات ، ثم قال للملائكة انظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجن والنسناس ، فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق ، عظم ذلك عليهم وأسفوا على أهل الأرض ، ولم يملكوا غضبهم و (۲) قالوا يا ربنا (۳) أنت العزيز القادر الجبار ، القاهر العظيم الشأن ، وهذا خلقك الضعيف الذليل في أرضك ، يتقلبون في قبضتك ويعيشون برزقك ، ويتمتعون (٤) بعافيتك وهم يعصونك ، بمثل هذه الذنوب العظام ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك ، بما تسمع منهم وترى وقد عظم ذلك علينا ، وأكبرناه فيك ، فلما سمع الله عز وجل ذلك من الملائكة ، قال إني جاعل في الأرض خليفة يكون حجة (٥) في أرضي على خلقي ، فقالت الملائكة سبحانك أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وقالوا فاجعله (٦) فإنا لا نفسد في الأرض ولا نسفك الدماء ، وقال الله جل جلاله (۷) يا ملائكتي إني أعلم ما لا تعلمون ، إني أريد أن أخلق خلقاً بيدي ، أجعل ذريته أنبياء مرسلين وعباداً صالحين ، وأئمة مهتدين ، أجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي (١) ينهونهم عن المعاصي ، وينذرونهم عذابي ويهدونهم إلى اطاعتي ، ويسلكون بهم طريق سبلي (۲) وأجعلهم حجة لي عذراً أو نذراً و (٣) أبين النسناس من أرضي ، فأطهرها منهم ، وأنقل مردة الجن العصاة عن بريتي وخلقي وخيرتي ، وأسكنهم الهواء ، وفي (٤) أقطار الأرض لا يجاورون (٥) نسل خلقي ، وأجعل بين الجن (٦) وبين خلقي حجابي ، حجاباً ولا يرى نسل خلقي الجن ولا يؤنسونهم ، ولا يخالطونهم ولا يجالسونهم ... الخ» (۷) .
فالله سبحانه منعهم وحجر (٨) بينهم وبين الإنس ، فلا يقدرون عليهم إلا إذا رفع (٩) الحجاب وفتح الباب ، وهنالك (١٠) يأتون بما يقدرون علیه (۱۱) ويرد الله سبحانه كيدهم في نحرهم ، ويقتل سلطانهم ويطهر الأرض من لوث نجاساتهم ، وذلك في آخر الرجعات عند ظهور قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} (١) وقد بينا وشرحنا هذه المسألة بأكمل بيان فيما (۲) كتبنا في الرجعة ، فليطلب ثمة من أراد زيادة التحقيق ، ومعرفة نكات التدقيق .