كيفية تكون خلق الجن

كيفية تكون خلق الجن  

وأما بدو خلق الجن ، فهو الذي ذكرناه ، من أن الله (۱) سبحانه خلقهم من ذلك النور ، أي الأثر ، كما خلق الإنسان الرعية من نور الأنبياء (عليهم السلام خ ل) وكما خلق الشعاع ، من السراج ، وخلق النهار من إشراق الشمس .


ومعنى ذلك أن الله سبحانه قد خلق من ذلك النور والإشراق بحراً أي مادة ، يضم صلوح ذلك النور ، والحقيقة الوحدانية للظهور ، بالأفراد والتشعب بالأشخاص ، فتلك الصلاحية لتلك الحقيقة (٢) عبارة عن البحر ، الصالح للتموج بالأمواج المختلفة ، الغير المتمايزة قبل المتموج (٣) والبحر عبارة عند أهل الأسرار عن الشيء الواحد ، السيال الساري ، الغير المتمايز الأجزاء ، وهو المراد من البحر غالباً ، في أخبار أهل البيت (ع) ، وذلك البحر قسمه الله سبحانه بلطيف حكمته ، بملاحظة لطيفة وكثيفة ، إلى قسمين : 


فمن اللطيف خلق (٤) سبحانه السماء (٥) ، ومن الكثيف الزبد خلق سبحانه (۱) الأرض ، وما بينهما (۲) متوسطات ، فأخذ (۳) سبحانه جزءاً من الماء ، وجزءاً من الأرض ، فالذي من الماء ينحل (٤) إلى الجزأين ، جزء من النار ، وجزء من الهواء والماء ، لا يراد منه الجسم البارد السيال ، بل المراد منه الرطوبة الحاملة للحياة ، الحاملة للحرارة (٥) الغريزية ، فالمراد من الماء هو الحامل للعلويين ، والمراد من الأرض هي الحاملة للسفليين فالماء البارد الرطب الوجه (٦) الأعلى منهما ، والأرض الباردة اليابسة الوجه الأسفل وإطلاق الماء على الوجه الأعلى ، والأرض على الوجه الأسفل شايع ذايع ، ومنه قوله تعالى : 

{وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (٧)

وقوله تعالى : 

{وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} (۸) فتحققت أربعة أجزاء ، وهي أربعة أركان ، فتمت بها حقيقة وجود الجن ، وهكذا حقيقة كل شيء ، فإن الإعتدال هو الأصل في حقيقة الأكوان ، وقولهم بأن الإعتدال لا يحصل به المزاج ، فقد هدمنا بنيانه وأزلنا أركانه في كثير من مباحثاتنا وأجوبتنا للمسائل وهذا هو الأصل في بدو خلقة الجن ، وكيفية تركيبهم في الفطرة الأولى العليا .


ولهم فطرة ثانية : وهي التي ظهرت أحكامها وغلبت طباعها (١) فبدت آثارها ، وهي غلبة النار في مزاجهم وطبيعتهم ، وخلقهم من النار ، كما أفصح (۲) عنه كثير من الآيات والأخبار (۳) وناهيك قوله تعالى :

{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} (٤) . 


وبيان ذلك أن الجن ، وإن قلنا سابقاً ، إن حقيقتهم واقعة في الرتبة الرابعة ، من السلسلة الطولية ، ولكنها في الحقيقة رتبتهم هي الرتبة الخامسة ، وإنما ذكرنا ذلك من جهة ظهور المراتب ، مشروحة العلل ومبينة (٥) الأسباب ، وإلا فهناك رتبة أخرى هي الأولى ، وهي الأصل في الحدوث والإحداث والوجود والإيجاد ، والإختراع والابتداع ، وهو الفعل المعبر عنه بالمشية والإرادة ، وهذه المراتب مراتب المفعولات والمشاءات المكونات ، من حيث هي كذلك ، فقيد الحيثية لإعتبار الحقيقة المحمدية صلى الله عليها (٦) .


فإنما جعلناها أول المراتب ، في مقام المفعولية دون الفعلية ، فإن لها مقامين (۷) فلنقبض عن الكلام ، وللحيطان آذان -


فالمراتب حينئذ خمس :

- الأولى : المشية والإختراع

- الثاني : الحقيقة المحمدية من حيث إنها محل المشيئة ، ومقام بحر صاد ، أول المداد لقلم (١)الاستعداد 

- الثالثة : حقيقة الأنبياء

- الرابعة : حقيقة الإنسان

- فالجن إنما وقعت في الرتبة الخامسة


ولما كانت هذه المراتب ، وإن تركبت من العناصر الأربعة ، لما برهنا عليه لا سيما في شرح الخطبة الطتنجية ، أن كل شيء تعلق به الجعل ، وكل حادث من حيث هو حادث ، إنما تركب من العناصر الأربعة في كل (۲) علم بحسبه ، إلا أن كل عنصر في كل مركب (۳) بحسب مقام ذلك المركب بمرتبته (٤) قد غلب ظهور عنصر منها ، يعني أن تلك الرتبة ، مقام ظهور ذلك العنصر وغلبته وإن كان ما سواه فيه ، كما تقول فلان صفراوي أو بلغمي أو دموي ، مع وجود باقي العناصر فيه فإذا أتقنت هذه (٥) الدقيقة الأنيقة .


فاعلم أن في المشية قد غلب ظهور عنصر النار ، حتى أطلقت عليها (١) النار ، في قوله عز وجل :

{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} (١)

ولأجل ظهور هذا العنصر وغلبته فيها ، خفيت واستترت واستجنت واستترت (٢) بالأسرار ، حتى خفيت والتبست ، واشتبه على الناس أمرها .


فمنهم من يجعلها أمراً اعتبارياً ، لا تحقق لها في الخارج ، بل إنما يعتبر الذهن اعتباراً .


ومنهم من يجعلها عين ذات الله سبحانه (۳) لم يتعلق بها جعل جاعل ومنهم من يجعلها من الأحوال ، فليست هي عين ذات الله ولا غيرها فلولا غلبت ناريتها لما خفيت ، وما ارتفعت عن البصائر والمدارك ، ولولا خفاؤها لما اختلفوا فيها ، فقد ظهرت المشية بالنار ، فجرت عليها آثارها من الخفاء والاستجنان .


وفي الحقيقة المحمدية صلى الله عليها (٤) قد غلب ظهورها الهواء ، ولذا اختصت بالنبوة والولاية ، من أحكام المشية الظاهرة في المشاء ، فإن الهواء سبيل النار ودليلها إلى الماء والتراب ، فهما ينفعلان لما ظهرا لها ، من آثار الفاعل ، التي حملتها الهواء ، فالهواء (٥) رابط بين النار التي هي جهة المبدأ وبين التراب ، لتوسط الماء ، فالنار هي الموصلة الممدة (٦) والتراب هو القابل المستفيض ، والهواء سبيل النار إلى الماء ، والماء سبيل الهواء إلى التراب ، وهو المركز ، محل السكون في الجملة ، فافهم الدقيقة ، بسر الحقيقة {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} (۱) .


ففي حقيقة الأنبياء (ع) قد غلب ظهور الماء ، ولذا ظهروا بالنبوة الخاصة في الرتبة الثانية ، فهم دليل الحقيقة المحمدية صلى الله عليها (۲) وسبيلها إلى الخلق الرعية ، كما في الزيارة (زيارة الندبة من الناحية المقدسة ، للإمام الحجة عجل الله فرجه) «وأن الأنبياء دعاة هداة رشدكم ، أنتم الأول والآخر وخاتمته» (۳)


كما أن الماء دليل الهواء ، في إيصال سر النار إلى التراب ، القابل الحامل المستفيض ، وإليه الإشارة على بعض وجوه التأويل بقوله تعالى : 

{وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ} (٤)


وقد قال مولانا الباقر (ع) : «نحن القرى التي بارك الله فيها ، والقرى الظاهرة شيعتنا» (٥) والأنبياء (ع) وجوه الشيعة وأصولها ، ولذا قلنا إن في مقام حقيقة الأنبياء قد ظهرت غلبة الماء ، وفي حقيقة الإنسان الرعية قد ظهرت غلبة التراب ، لأنهم الرعايا محل القبول والانفعال (٦) وحفظ ما يرد عليهم من الأحكام الوجودية ، الكونية والشرعية ، فهو في مقام التراب .


فالألف في العالم التدويني مقام المشية ، والباء تحكي مقام الحقيقة المحمدية صلى الله عليه (١) وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم» والجيم مقام حقيقة الأنبياء ، والدال مقام حقيقة الإنسان .


فتمت العناصر بظهورها وآثارها ، وإن كان في كل مرتبة كلها ، فلما بدت حقيقة الجن من حقيقة الإنسان ، التي عندها ظهور العناصر ، ولم يكن مرتبة (٢) بعد التراب ، وجب أن يكون في الرتبة الخامسة ، ظهور سر النار الكامنة في التراب ، ففي هذه المرتبة نار قد أوقدت من التراب .


ولما كان الجن هي الرتبة الخامسة ، وجب أن يظهر فيها سر النار في المبدأ الثاني ، فكانت تلك النار هي التي أوقدت وظهرت من الشجر الأخضر ، الذي هو التراب بسر الغلبة ، وحقيقة الإنسان هي الشجر الأخضر ، فوجب أن يكون في الجن غلبة النار ، ولذا سميت جناً لخفائها واستجنانها ، كما هو شأن من غلبت عليه النار ، فلما وجب ذلك زاد (۳) سبحانه على تلك العناصر الأركان ، المستخرجة من بخار الماء ، وزبد (٤) البحر ، جزأين من الحرارة واليبوسة ، فغلبت على الأجزاء الآخر فقال سبحانه : 

{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} (٥)


وهي النار التي قد خلصت وصفيت من فاضل إشراق التراب ، ولذا عبر عنها بالمارج ، إشارة إلى هذه الدقيقة الأنيقة ، فكانت الجن قد خلقت من نار الشجر الأخضر بإضافة الماء (۱) والهواء والتراب ، ولكن اعتبار ما سوى النار فيها ضعيف ، وقد يعبر عنها بالهواء المجاور بالنار ، التي لا يجري فيها إلا حكم النار ، وهو نار السموم ، وهو قوله تعالى :

{وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} (۲)


ولذا قال مولانا الصادق (ع) في قوله تعالى حكاية عن إبليس : «وروى علي بن إبراهيم في تفسيره ، بسنده عن أبي عبد الله (ع) في قول إبليس : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فقال : كذب إبليس ما خلقه الله إلا من طين ، قال الله : {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} ، خلق الله النار من الشجر ، والشجر أصله من طين» (۳) .


فالشجر الأخضر في هذا الحديث الشريف ، هو رتبة الجن ، الشعاع المخلوق من طينة الإنسان ، وهو كما ذكرنا سابقاً ، انحل إلى ماء وأرض ، والنار إنما خلصت (٤) من هذه الحقيقة ، كما يشعر عليه من ، الدالة على التبعيض في قوله تعالى : {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} فالنار قد خلصت ومرجت (٥) من هذه الشجرة ، التي جميع الجان أغصانها ، والجن قد خلقت من هذه النار والشجرة (۱) شجرة الجان ، خلقت من فاضل طينة الإنسان .


والوجه الآخر الظاهر لبيان الحديث الشريف صلى الله على قائله ، أن النار التي خلقت منها الجن ، إنما خلقت من الشجر الأخضر ، وهو حقيقة الإنسان ، الغالبة عليها ظهور التراب ، والشجر الأخضر الذي هو عبارة (٢) عن حقيقة الإنسان ، إنما خلق من فاضل طينة آدم ، أي حقيقة الأنبياء ، فنار الجن نازلة عن التراب ، الذي هو الغالب في حقيقة الإنسان بمرتبة ، فيكون نزولها عن مقام آدم نبي الله بمرتبتين ، فنار الجن شعاع شعاع طينة آدم لقد (۳) كررت العبارة ورددتها للتفهيم . 


ولكن الجن حيث كانت في الرتبة الخامسة ، من السلسة الطولية ، فكانت تحكي ظهور الرتبة الأولى ، الغالب عليها عنصر النار ، فكانت تحتها في الرتبة الثانية الشعاعية ، كالهاء التي جعلت تحت الألف ، لانقطاع مراتب العناصر بعد الدال ، فالهاء نار لكنها أنزل من نارية الألف ، بعشر أو ثلاثين فافهم التقريب .


وذكر شيخنا العلامة رفع الله في الدارين أعلامه ، في كشكوله عن السيد (٤) حيدر شيخ الشهيد الثاني (ره) أن الإنسانية من ألف جزء تسعمئة جزء من التراب ، وتسعين من الماء ، وتسعة من الهواء ، وجزء من النار ، والإبليسية (١) من ألف جزء سبعمئة من التراب ، ومئة وخمسون من الماء ، ومئة من الهواء ، وخمسون من النار -والعلامة أيضا ذكر ذلك- وقال فصار آدم لغلبة الطين ظاهره مظلم ، وباطنه مشرق ، وإبليس لغلبة النار باطنه مظلم ، وظاهره محرق انتهى .


وهذه كلمات صناعية إن رجعت إلى ما ذكرنا بضرب من التأويل فهو حق وإلا فلا ، فإن الذي ذكرنا لك هو الذي اقتضاه الدليل القطعي ، ومذهب الإسلام ، ومذهب الفرقة الناجية (۲) وماذا بعد الحق إلا الضلال فافهم إن كنت تفهم وإلا فاسلم تسلم


فان كنت ذا فهم تشاهد ما قلنا 

وإن لم تكن فهم فتأخذه عنا 

وما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد 

عليه وكن في الحال فيه كما كنا