غذاء الجن استنشاق النسيم

غذاء الجن استنشاق النسيم


وأما غذاؤهم من حيث أنفسهم ، فاستنشاق (١٠) النسيم ، وأما عند تنزلهم بصورة من الصور ، فعلى مقتضى مقام تلك الصورة ، فان تصوروا بصورة (۱) الإنسانية وتغلظوا (٢) كما ظهروا لسليمان ، وكان يستخدمهم ويفرقهم في الأعمال المختلفة ، من أمر الحديد والنحاس ، وقطع الأحجار والصخور والأشجار (۳) وأبنية الحصون ، وكان يأمر نساءهم بغزل القز والابريسم ، والقطن ونسج البسط والنمارق (٤) ويأمر بعضهم بعمل المحاريب والتماثيل ، وجفان كالجواب وقدور راسيات ، فاتخذوا له قدوراً من الحجارة ، كل قدر يأكل منه ألف (٥) نسمة ، واشتغل طائفة منهم بالطحن ، وطائفة منهم بالخبز ، وأخرى (٦) بالذبح والسلخ ، وطائفة بالغوص في البحار لاستخراج الجواهر واللآليء ، وطائفة لحفر الآبار والقنا (۷) وشق الأنهار ، وطائفة لإخراج الكنوز من تحت الأرض ، وطائفة بالمعدنيات واستخراجها من المعادن ، وطائفة برياضة الصعاب (۸) . 


وأمرهم بأن يتخذوا له مدينة من القوارير (۹) لا تحجب سقوفها وحيطانها (١٠) شيئاً ، فبنوا مدينة طويلة على طول معسكر سليمان (ع) وعرضه ، وجعلوا لكل سبط من الأسباط فيها قصراً ، في طول ألف ذراع وعرضه مثله ، وفي (١) كل قصر دور ومجالس وبيوت وغرف (۲) الرجال والنساء ، ثم بنى مجلساً في طول ألف ذراع وعرضه مثله ليجلس فيها (۳) العلماء والقضاة ، ثم بنوا لسليمان قصراً رفيعاً عجيباً ، في طول خمسة آلاف ذراعا (٤) وعرضه مثله ، وزخرفوه بأنواع القوارير ، ورصعوه بأنواع الجواهر ، وكان سليمان (ع) إذا ركب الريح (٥) على بساطه في هذه المدينة ، يرى (٦) كل شيء من على بساطه ، خارج المدينة لصفاء القوارير ، حتى الطباخين والخبازين وجميع من ركب بساطة من الجن والإنس (٧) ، والخيل والخدم والحشم ، وكان الكـل بـمـرأى من سليمان (ع) والريح تجري (۸) بأمره رخاء حيث أصاب ، وهؤلاء الخدمة إنما ظهروا على الصورة الإنسانية ، وغلظوا للاستخدام ، فغذاؤهم من جنس غذاء الإنسان ، وإن تصوروا بالصورة المختلفة من صور البهايم وغيرها ، يكون غذاؤهم على مقتضى تلك الصور (٩) كما ظهروا لسليمان (ع) على هيئات مختلفة تدل على اقتضاءات كينوناتهم ، ومنهم من كانت وجوههم إلى أقفيتهم ، وتخرج النار من فيهم ، ومنهم من كان يمشي على أربع ، ومنهم من كان له رأسان ، ومنهم من كانت رؤوسهم رؤوس الأسد ، وأبدانهم أبدان الفيل .


فرأى سليمان (ع) شيطاناً ، نصفه صورة الكلب ونصفه صورة السنور ، وله خرطوم طويل ، وقال له : من أنت ؟ فقال (۱) : أنا مهران بن لهفان بن غیلان (۲) وقال سليمان (ع) ما عندك من الأعمال قال عندي عمل الغناء ، وعصر الخمر وشربه وأزين الشرب والغناء (۳) لبني آدم ، فأمر بتصفيده . 


ثم مر به آخر قبيح الشكل أسود ، له نبح الكلاب والدم يقطر من كل شعرة على بدنه ، وهو سمج الشكل فقال له : من أنت ؟ قال : أنا الهلهال ابن المحول (٤) فقال له : ما عملك ؟ قال : سفك الدماء ، فأمر بتصفيده (٥) فقال يا نبي الله لا تقيدني فإني أحشر إليك جبابرة الأرض ، وأعطيك العهد والميثاق ، أن لا أفسد في مملكتك ، فأخذ عليه الميثاق وختم (٦) عنقه وأطلقه .


ومر به آخر في صورة قرد (۷) له أظفار كالمناجل ، هو قابض على بربط ، فقال له : من أنت ؟ فقال (۱) : أنا مرة (۲) بن الحارث ، فقال له : ما عملك؟ فقال له : أنا (۳) أول من وضع هذا البربط وحركه ، فلا يجد أحد لذة الملاهي إلا بي ، فأمر بتصفيده .


وهكذا من ساير الصور فالكل يتغذون عند التنزل (٤) على حسب مقتضى تلك الصورة ، لأن الأحكام كلها تابعة للصورة (٥) وأما المادة من حيث هي هي (٦) فلا حكم لها ، وفي البحار عن وهب انه سئل عن الجن ، هل يأكلون ويشربون أو (۷) يموتون أو يتناكحون؟ قال (هم أجناس ، أما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يموتون ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ، ويتناكحون ويموتون (۸) وهي هذه التي منها (۹) السعالي والغول وغير ذلك .


أقول مراده لا يأكلون ولا يشربون ، يعنى مثل الأكل والشرب والموت والتوالد الذي (۱۰) لبني آدم ، وإلا فهم يأكلون ويشربون ويتوالدون من سنخهم (۱) على حسب مقامهم ومرتبتهم ، لدلالة الأخبار الكثيرة ، بإثبات هذه الأمور لهم ، وأنهم أتوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأردوا أن يجعل (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم شيئاً من الطعام ، فجعل لهم الروث والعظم ، أما الروث فانه فضلة من الحيوان الطيب ، والعظم فضلة من طعام بني آدم (۲) ، والمراد أن الجن لهم الفضلة ، وليس لهم الأصل ، لإنهم فاضل وبقية . 


وبالجملة لهم أكل وشرب وولادة على مقتضى كينونتهم ، فإذا ظهوروا بالصورة الإنسانية ، فيتناكحون مع الإنسان ويتوالدون ، أما سمعت أن بلقيس كانت أمها جنية وغيرها من أمثالها كثير ، وهم يموتون ويقتلون ، إذا ظهروا بصورة إنسان أو حيوان ، وأما إذا كانوا على صورهم الحقيقية في مقام ذاتهم ، فلا يجري عليهم ما يجري على الحيوانات ، التي غلبت عليهم طبيعة التراب ، ألا ترى أن الهواء المحض ، لا ينفعل انفعالات الماء والأرض والمتولد منهما ، وكذلك النار فإذا كان الجن مخلوقين من مارج من نار ، ومن نار السموم ، كيف يجري عليهم أحكام أهل الأرض (۳) من مآكلهم ومشاربهم وحياتهم وموتهم .