ولادة الإمام موسى بن جعفر (ع)

ولادة الإمام موسى بن جعفر (ع)

المشهور بين الأصحاب في ولادة الإمام موسى الكاظم (ع) ، أنها في السابع من شهر صفر المظفر ، سنة ثمان وعشرين ومائة للهجرة . 


ولكن حينما نراجع الروايات عن المعصومين (ع) ، في ولادة الإمام الكاظم (ع) ، نجدها تجمع على أنه ولد في منطقة الأبواء ، وهذه المنطقة تقع بين مكة والمدينة المنورة في شمال غرب مكة المكرمة ، وجنوب غرب المدينة المنورة ، ينزل بها الحجاج عند ذهابهم إلى مكة المكرمة ، لأداء الحج أو العمرة وإيابهم منها . 

لذا من تتبع التأريخ في تلك الحقبة الزمنية ، أدرك أنه ما تذكر منطقة الأبواء إلا في العبور ذهاباً وإياباً دائماً ، من وإلى مكة المكرمة .


ذكر الطبراني في المعجم الكبير (عن الشعبي قال : خرج معاوية من الشام يريد مكة ، فنزل منزلاً بين مكة والمدينة، يقال له الأبواء) (۱)


ما رواه الشيخ عن الحلبيّ - في الصحيح - عن أبي عبد الله (ع) ، قال : 

(إنّ عثمان خرج حاجاً ، فلما صار إلى الأبواء ، أمر منادياً ينادي في الناس : اجعلوها حجّة ولا تمتّعوا ، فنادى المنادي ، فمرّ المنادي بالمقداد ، فقال : أما لتجدن عند القلائص رجلاً ينكر ما تقول ، فلمّا انتهى المنادي إلى عليّ (ع) ، وكان عند ركائبه يلقمها خبطاً (١) ودقيقاً ، فلما سمع النداء تركها ومضى إلى عثمان ، فقال: ما هذا الذي أمرت به ؟! فقال : رأي رأيته ، فقال : لا والله ، ، لقد أمرت بخلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . ثمّ أدبر مولِّياً رافعاً صوته : لبّيك بحجّة وعمرة معاً لبّيك ، وكان مروان بن الحكم يقول بعد ذلك : فكأنّي أنظر إلى بياض الدقيق ، مع خضرة الخبط على ذراعيه) (۲) .


في بصائر الدرجات : أحمد بن الحسين ، عن المختار بن زياد ، عن أبي جعفر محمد بن سليم عن أبيه ، عن أبي بصير قال : 

(كنت مع أبي عبد الله (ع) في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (ع) ، فلما نزلنا الأبواء ، وضع لنا أبو عبد الله (ع) الغداء ولأصحابه وأكثره وأطابه ، فبينا نحن نتغدى إذ أتاه رسول حميدة ، أن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا . 


فقام أبو عبد الله فرحاً مسروراً ، فلم يلبث أن عاد إلينا، حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنّه 

فقلنا : أضحك الله سنّك ، وأقر عينك ، ما صنعت حميدة؟ 

فقال : وهب الله لي غلاماً ، وهو خير من برأ الله ، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها ، قلت : جعلت فداك وما خبرتك عنه حميدة؟ قال : ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء ، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمارة الإمام  من بعده . 


فقلت : جعلت فداك وما تلك من علامة الإمام؟ فقال : إنه لمّا كان في الليلة التي علق بجدي فيها ، أتى آتٍ جد أبي وهو راقد ، فأتاه بكأس فيها شربة أرقّ من الماء ، وأبيض من اللبن ، وألين من الزبد ، وأحلى من الشهد ، وأبرد من الثلج فسقاه إياه وأمره بالجماع ، فقام فرحاً مسروراً ، فجامع فعلق فيها بجدي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بأبي أتى آتٍ جدي فسقاه كما سقا جد أبي وأمره بالجماع ، فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بأبي ، ولما كان في الليلة التي علق بي فيها ، أتى آت أبي فسقاه وأمره كما أمرهم ، فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بابني هذا ، أتاني آتٍ كما أتى جد أبي وجدي وأبي فسقاني كما سقاهم ، وأمرني كما أمرهم ، فقمت فرحاً مسروراً بعلم الله بما وهب لي فجامعت فعلق بابني هذا المولود ، فدونكم فهو والله صاحبكم من بعدي) (۱) .


في المحاسن : الوشا ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (ع) قال : 

(حججنا مع أبي عبد الله في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (ع) فلما نزل الأبواء ، وضع لنا الغداء ، وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثره وأطابه قال : فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة ، فقال: إن حميدة تقول لك : إني قد أنكرت نفسي ، وقد وجدت ما كنت أجد إذا حضرتني ولادتي ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابني هذا . 


قال : فقام أبو عبد الله (ع) فانطلق مع الرسول ، فلما انطلق قال له أصحابه سرَّك الله ، وجعلنا فداك ما صنعت حميدة؟ 

قال : قد سلمها الله ، ووهب لي غلاماً ، وهو خير من برأ الله في خلقه ، وقد أخبرتني حميدة ، ظنت أني لا أعرفه ، ولقد كنت أعلم به منها ، 

فقلت : وما أخبرتك به حميدة؟ 

قال : ذكرت أنه لما سقط من بطنها ، سقط واضعاً يده على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء ، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمارة الوصي من بعده .  


فقلت : وما هذا من علامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلامة الوصي من بعده؟ فقال : يا أبا محمد إنه لما أن كانت الليلة التي علق فيها بابني هذا المولود، أتاني آتٍ [كما أتى جدّ أبي وجدّي وأبي] (١) فسقاني كما سقاهم ، وأمرني بمثل الذي أمرهم به ، فقمت بعلم الله مسروراً بمعرفتي ما يهب الله لي ، فجامعت فعلق بابني هذا المولود ، فدونكم فهو والله صاحبكم من بعدي ، إن نطفة الإمام مما أخبرتك ، فإذا سكنت النطفة في الرحم أربعة أشهر، وأُنشئ فيه الروح ، بعث الله تبارك وتعالى إليه ملكاً يقال له حيوان ، فكتب على عضده الأيمن {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (۲) فإذا وقع من بطن أمه ، وقع واضعاً يده على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء . 


فإذا وضع يده على الأرض ، [فإنّه يقبض كل علم أنزله الله من السماء إلى الأرض . وأما رفعه رأسه إلى السماء ،] (۳) فإن منادياً يناديه من بطنان العرش ، من قبل رب العزة من الأفق الأعلى ، باسمه واسم أبيه : 

«يا فلان بن فلان اثبت - ثلاثاً ـ لعظيم ما خلقتك ، أنت صفوتي من خلقي ، وموضع سري ، وعيبة علمي ، وأميني على وحيي ، وخليفتي في أرضي ، لك ولمن تولاك أوجبت رحمتي ، ومنحت جناني ، وأحللت جواري ، ثم وعزتي لأُصلينّ من عاداك ، أشد عذابي ، وإن وسعت عليهم في الدنيا من سعة رزقي» . 


قال : فإذا انقضى صوت المنادي أجابه هو ، واضعاً يده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء ، ويقول : 

«شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم» 


قال : فإذا قال ذلك أعطاه الله العلم الأول ، والعلم الآخر، واستحق زيارة الروح في ليلة القدر ، 

قلت : والروح ليس هو جبرئيل؟ 

قال : لا ، الروح خلق أعظم من جبرئيل ، إن جبرئيل من الملائكة ، وإن الروح خلق أعظم من الملائكة ، أليس يقول الله تبارك وتعالى : {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} (۱) ) (۲) .


وفي المحاسن أيضاً : علي بن حديد ، عن منصور بن يونس، وداود بن رزين ، عن منهال القصاب قال : 

(خرجت من مكة وأنا أريد المدينة ، فمررت بالأبواء ، وقد ولد لأبي عبد الله (ع) فسبقته إلى المدينة ، ودخل بعدي فأطعم الناس ثلاثاً ، فكنت آكل في من يأكل ، فما أكل شيئاً إلى الغد ، حتى أعود فأكل ، فمكثت بذلك ثلاثاً ، أطعم حتى أرتفق، ثم لا أطعم شيئاً إلى الغد) (۳) .


لاحظ رواية علي بن أبي حمزة البطائني تصريح ، بأن الإمام جعفراً الصادق (ع) كان عائداً من الحج ، وعلي بن أبي حمزة البطائني وإن كان واقفياً ، إلا أنه ثقة ويؤخذ بروايته ، كما هو المعروف عند رجال الحديث . 


فمن أوائل من قال بولادة الإمام موسى الكاظم (ع) ، في شهر ذي الحجة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري الشيعي ، في كتابه دلائل الإمامة ، ينقل عن الإمام الحسن العسكري بقوله : 

(قال أبو محمد الحسن ابن علي الثاني : ولد بالأبواء بين مكة والمدينة ، في شهر ذي الحجة ، سنة مائة وسبعة وعشرين من الهجرة) (۱) .


فمنطقة الأبواء تبعد عن مكة المكرمة مائتي كيلو متر ، وتبعد عن المدينة المنورة مائة وسبعين كيلو متر ، وارتحال الحجاج من منى عادة يوم الثالث عشر من ذي الحجة ، فقطع ثمانين كيلو متر مشياً بالطبيعي لا سريع ولا بطيء يكون في ثلاثة أيام ، كما يقطع المشاية لزيارة الإمام الحسين (ع) ، في زيارة الأربعين من النجف الأشرف إلى كربلاء المعلا في خلال ثلاثة أيام تقريباً ، فمئتا كيلو متر تقطع في خلال ثمانية أيام تقريباً ، ويزاد يوم أو يومان ، لإقامة الإمام جعفر الصادق في منطقة الأبواء ، لولادة الإمام موسى الكاظم (ع) ، فيكون ميلاده تقريباً يوم واحد وعشرين ، أو اثنين وعشرين من ذي الحجة .


فعلى ذلك يكون ميلاد الإمام موسى الكاظم (ع) ، إما يوم واحد وعشرين أو اثنين وعشرين من شهر ذي الحجة ، سنة ثمانٍ وعشرين ومائة ، أو سبع وعشرين ومائة هجرية ، فالأقرب عندي أن ولادة الإمام موسى الكاظم (ع) يوم اثنين وعشرين من شهر ذي الحجة سنة ثمانٍ وعشرين ومائة هجرية ، لأن علماءنا أجمعوا على أن ولادة الإمام موسى الكاظم (ع) في منطقة الأبواء ، ومنطقة الأبواء هي محطة في الطريق ، مثل محطات البنزين الحديثة ، التي يمر بها المسافرون في طرق العالم ، فلا يمكن الإقامة بالأبواء أكثر من شهر إلى السابع من شهر صفر المظفر ، فمولد الإمام الكاظم (ع) في شهر ذي الحجة أقرب إلى الرواية والمنطق والواقع والعرف .