العلامة الكبير فقيه أهل البيت الحكيم الكبريائي
مولانا الحاج ميرزا موسىٰ الإحقاقي الإسكوئي قدس سره
كيفية علم الأئمة (ع)
هل هو بالشرعيات فقط أو بها والتكوينيات
السؤال السادس : عن كيفية علم الأئمة (عليهم السلام) هل هو بالشرعيات فقط أو بها والتكوينيات .
الجواب :
اقول : لا شك ولا ريب من الفريقين ان الله عز وجل اودع في كتابه الكريم الذي هو اعظم معاجز نبينا (صلى الله عليه وآله) جميع علوم الأولين والآخرين من التكوينيات والتشريعيات {ولا رطب ولا يابس الا في کتاب مبين} ، {وفيه تفصيل كل شيء} ، {وتبيان كل شيء} ، {وكل شيء احصيناه كتابا} .
ولا شك ان (المعصومين الاربعة عشر) عالمون بجميع ما في الكتاب من علومه الظاهرة والباطنة التكوينية والتشريعية . ولا يعزب عنهم من علومه شيء كليها وجزئيها سمائيها وارضيها ماضيها ومستقبلها وحالها .
والأخبار المعتبرة المستفيضة مصرحة بذلك .
في (الكافي) في آخر خبر سدير يقول الصادق (عليه السلام) : «علم الكتاب والله كله عندنا» .
وفي (الكافي) ايضا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «ما يستطيع احد ان يدعي ان عنده جميع (القرآن) کله (ظاهره) و (باطنه) غير الاوصياء» .
وفي (الكافي) أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «قد ولدني رسول الله وأنا أعلم كتاب الله وفيه (بدء الخلق) وما هو كائن الى يوم القيامة ، وفيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن أعلم ذلك كما انظر الى كفي» ، ان الله يقول : {فيه تبيان كل شيء} .
انظر الى هذا الخبر الأخير الشريف كيف يحصر أبو عبد الله (ع) علم جميع الأشياء في (الكتاب) ، يقول : «فيه بدء الخلق وما هو كائن الى يوم القيامة» .
ولا شك ان بدء الخلق وما هو كائن من (التكوينيات) .
ويقول : «وانا اعلم كتاب الله» يعني ما فيه من بدء الخلق وما هو كائن الى القيامة .
ويحصر ايضا مرة بعد اخرى بقوله : «وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وما هو كائن» بحيث لا يشذ شيء من تحت شمول هذه الفقرات اذ كل ما يتصور من المعلومات سواء كانت (تكوينية) ام (تشريعية) لا تخلو أما هي من الأخبار السماوية أو الأرضية او أخبار ما كان او هو كائن .
ثم يقول بعد حصره جميع الأشياء بهذه الفقرات في كتاب الله : «اعلم ذلك - اي كتاب الله - كما انظر الى كفي» ، فهل بقي شيء بعد علم الكتاب لا يعلمونه حتى يقال ان علمهم بالشرعيات لا بالكونيات ؟ هذا قول من كابر عقله واطلق في ميدان العناد جهله .
ثم انه (عليه السلام) كنس غبار الاوهام الضعيفة بقوله (عليه السلام) : «أعلم ذلك كما انظر في كفي» حتى لا يتوهم احد ان علمهم بجميع الأشياء بسبب علمهم بالكتاب (حصولي) اي اذا ارادوا ان يعلموا شيئا علموا والا فلا .
بل صرح بقوله هذا بان علمهم (ع) بجميع الأشياء بطريق الحضور والقيومية والاحاطة بها والعيان لا الاخبار والارادة والحصول كما توهم من لاحظ له في المقام ولا اطلاع له بآثار سادات الانام .
فكأنه (عليه السلام) اراد من تشبيه علمه بالكتاب بالنظر الى كفه ان يبين ان علمنا بجميع الأشياء كالنظر الى كفنا ، فكما ان عند النظر الى كفي لا يغيب شيء من جزئیات كفي من نظري ويكون بصري محيطا بكفي ويكون كفي جزئيا من جزئيات ما حاط به بصري فكذلك علمي بجميع الأشياء محيط بها كاحاطة بصري بكفي لا احتاج الى التفات او مخبر يخبرني من الملائكة والرياح وغيرهما ، ولقد اشبعنا الكلام في هذا المقام بما لا مزيد عليه في كتابنا (تنزيه الحق عن افتراءات الخلق) (۱) .
ثم انه كيف ينحصر علمهم في الشرعيات ولا يعلمون الكونيات ؟
والحال ان الله جعلهم (شهداء) على خلقه فلا يغيب من أحوال العباد عنهم شيء . {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (۱) .
ويقول الصادق (ع) : «نحن المؤمنون» ونصبهم علماء في خلقه فعندهم جميع ما يحتاجون اليه .
وكيف يكون العالم بما يحتاج اليه الخلق عالما بشيء وجاهلا بشيء ؟
في (الكافي) عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : «لا والله لا يكون عالم جاهلا ابدا عالما بشيء جاهلا بشيء» .
ثم قال (ع) : «ان الله اجل واعز وأكرم من ان يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وارضه» .
ثم قال : «لا يحجب ذلك» . انتهى .
فلامام اذا كان عالما بشيء وجاهلا بشيء فما الفرق بينه وبين من جعله الله حجة عليه ؟
فالخلق كل واحد منهم بحسب حاله عالم بشيء وجاهل بشيء ، فمنتهى الفرق بينه (ع) وبينهم التفاوت في العلم قلة وكثرة .
فتساوى الرئيس والمرؤس والحجة والمحجوج والامام والرعية والله عز وجل يقول على طريق الانكار : {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} .
الحاصل : فالاخبار المستفيضة صريحة بان الأئمة (عليهم السلام) عالمون بجميع ما خلق الله وذرء وبرأ في جميع (العوالم) ، وجميع ما تعلقت به المشيئة وجرى عليه (قلم الايجاد) ، وكلها حاضرة لديهم اذ العلم -كما حققنا في محله- حضور المعلوم لدى العالم وليسوا جاهلين بشيء أبدا اذ الجهل نقص فيهم والله خلقهم كاملين من كل جهة لا يتطرق الى ساحة عزهم غبار الجهل وآثاره .
في (صحيفة الابرار) عن كتاب تأويل الآيات للسيد شرف الدين النجفي عن مصباح الأنوار للشيخ الطوسي باسناده عن رجاله مرفوعا الى المفضل بن عمر قال : دخلت على الصادق (عليه السلام) ذات يوم فقال لي :
«یا مفضل هل عرفت محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين كنه معرفتهم » ؟
فقلت : ياسيدي وما كنه معرفتهم ؟
قال : «يا مفضل تعرف انهم في طرف عن الخلائق بجنب الروضة الخضراء فمن عرفهم كنه معرفتهم كان مؤمنا في السنام الأعلى» .
قال : قلت : عرفني ذلك ياسيدي .
قال : «یا مفضل تعلم انهم علموا ما خلق الله عز وجل وذرأه وبرأه وانه كلمة التقوى وخزان السماوات والأرض والجنة والنار والجبال والرمال والبحار ، وعرفوا كم في السماء من نجم وملك ، ووزن الجبال وكيل البحار وانهارها وعيونها ، وما تسقط من ورقة الا علموها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين وهو في علمهم وقد علموا ذلك » .
قلت : يا سيدي قد علمت و اقررت به وآمنت .
قال : «نعم يا مفضل ، نعم يا مکرم ، نعم يا محبور يا طيب طبت وطابت لك الجنة ولكل مؤمن بها » انتهى .
ايضا في (صحيفة الابرار) عن مناقب بن شهر اشوب عن صفوان ابن يحيى عن بعض رجاله ، عن الصادق (عليه السلام) قال :
« والله لقد اعطينا علم الأولين والآخرين » .
فقال له رجل من اصحابه : جعلت فداك ، أعندكم علم الغيب ؟
فقال له : «ويحك اني لأ علم ما في اصلاب الرجال وارحام النساء ويحكم وسعوا صدوركم ولتبصر اعينكم ولتسع قلوبكم فنحن حجته في خلقه ولن يسع ذلك إلا صدر كل مؤمن قوي قوته كقوة جبال تهامة الا باذن الله ، والله لو اردت ان احصي كل حصاة عليها لأخبرتكم ووالله لتباغضون بعدي حتى يأكل بعضكم بعضا» انتهى .
وفي (الكافي) عن عبد الأعلى وابو عبيدة وعبد الله بن بشر الخثعمي سمعوا عن الصادق يقول : «اني لأعلم ما في السموات وما في الأرض واعلم ما في الجنة واعلم ما في النار واعلم ما كان وما يكون» .
قال : ثم مكث هنيئة فرأى ان ذلك كبر على من سمعه منه فقال : « علمت ذلك من كتاب الله عز وجل يقول : {فيه تبيان كل شيء} » .
وبالجملة : فعلمهم (عليهم السلام) محيط بجميع الأشياء حضورا الجزئي منها والكلي والجوهري والعرضي والذات والصفة والأخبار مصرحة بذلك ، ولولا الموانع لاعطينا المقام حقه وارخينا العنان لمن اراده واستحقه .
ومن اعتقد ان علمهم (عليهم السلام) منحصر في الشرعيات فهو من المقصرين المفرطين في حقهم الذين نقصوا ائمتهم عن المراتب التي رتبهم الله فيها ، وزهقوا في بر التفريط ولم يوفوا آل محمد حقهم فيما يجب على المؤمن من معرفتهم ، والأولى ترك ذكرهم وعدم التعرض لقولهم ، والحمد لله الذي هدانا لما وفقنا به حمدا يليق بعزه وجلاله .