العلامة الكبير فقيه أهل البيت الحكيم الكبريائي
مولانا الحاج ميرزا موسىٰ الإحقاقي الإسكوئي قدس سره
عن علمهم (ع) بآجالهم
وان روح القدس كيف يسددهم
وما المراد منه
وكيف يغيب عنهم عند قتلهم أو أكلهم السم ؟
السؤال السابع : عن علمهم (ع) بآجالهم وان روح القدس كيف يسددهم وما المراد منه وكيف يغيب عنهم عند قتلهم أو أكلهم السم ؟
الجواب :
اقول وبالله التوفيق :
لاشك ولا ريب ان المعصومين الاربعة عشر (عليهم الصلوة والسلام) يعلمون ما كتب في لوح القدر والقضاء وهم فوارة القدر .
ومما كتب وثبت في اللوح آجالهم وآجال غيرهم ، أو ما اخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) بموته وقتله قبل شهادته وفي الليلة التي ضرب فيها لابن ملجم ؟
وفي الليلة التي توفي فيها لأولاده وعياله ؟
والحسين (عليه السلام) عند خروجه من المدينة لام سلمة ؟
ومحمد بن الحنفية وابن عباس وابن عمر ؟
والرضا (عليه السلام) لأبي الصلت؟ وكذلك سائر الأئمة (عليهم السلام) ؟
وكيف لا يعلمون (ع) باجالهم والحال كان عند بعض شيعتهم علم البلايا والمنايا كرشيد الهجري ، وميثم التمار ، وسلمان الفارسي وغيرهم ممن ضاهاهم في الرتبة والدرجة ، فما ظنك بالأئمة (عليهم السلام) الذين علموهم ذلك العلم ؟
فان قلت : ان علموا باجالهم فكيف اقدموا على القتل وأكل السم مع علمهم ، والقوا انفسهم على التهلكة ؟
قلت : اقدامهم على القتل وأكل السم كان بامر من الله سبحانه وكل واحد منهم فعل من الافعال وعمل من الأعمال . والله سبحانه يقول : {عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} .
فاذا كان قتلهم أو أكلهم السم بامر الله ومشيئته فلا تهلكة اذن وتعرض النفس على المهلكة سواء كان في امر الدنيا أو الآخرة انما هو اذا كان بغير امر من الله سبحانه ، وأما اذا كان بأمره سبحانه فهو الفوز بالسعادة الأبدية وان كان فيه هلاك نفسه ، كما ان مخالفته امره هي الهلاك والشقاوة الأبدية وان كان فيها نجاة نفسه ، الا ترى ان الجهاد القاء الى التهلكة لاسيما اذا أخبر المعصوم بشهادته في مبارزته كعمار وشهداء الطف .
لكنه لما كان بأمر من المعصوم الذي هو امر من الله سبحانه كان حياة وسعادة أبدية .
فالامام اذا امر رجلا ان يخرج الى الجهاد ولا يرجع حتى يقتل فهل يسع ذلك الرجل ان يقول ان الله نهاني عن ذلك بقوله : {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} ؟
فكذلك هم (عليهم السلام) لما أمرهم الله عز وجل بالقتال او أكل السم يجب عليهم امتثال امر الله وان علموا ان ذلك يوجب مماتهم فان ذلك هو السعادة والنجاة الابدية فافهم يا محب واحسن الظن بالآل ولا تكثر القول والمقال ان العلم نقطة كثرها الجاهلون .
والمراد بروح القدس هو أول (الملائكة العالين) (۱) الذين هم حملة العرش الحقيقي الذي به استوى على جميع خلقه ، وهو (العقل الكلي) الحامل للركن الايمن الأعلى من العرش الساطع منه النور الأبيض الذي ابيض منه كل بياض .
ويستمد منه بكمال الخضوع والخشوع ميكائيل (ع) في ايصال ارزاق الخلائق كل بحسبه اليها .
وهو أول (الوجود المقيد) (۲) وهو (عقلهم الشريف) .
قال مولانا الصادق (عليه السلام) : «ان الله خلق العقل وهو اول خلق من الروحانيين عن يمين العرش» .
وعن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) : «أول ما خلق الله العقل ثم قال له : اقبل فاقبل ثم قال له : ادبر فادبر» الحديث .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «أول ما خلق الله عقلي» .
وبالجملة ، المراد بـ (روح القدس) الذي لم ينزل الى نبي من الأنبياء بل توجه اليهم بوجه من وجوهه ونزل الى نبينا (صلى الله عليه وآله) وهو الآن عند قائمنا (عجل الله فرجه) هو عقلهم الشريف المسمى بـ (العقل الكلي) .
ولا شك ولا ريب ان تسديد كل أحد وتأييده لا يكون الا بعقله كل بحسبه فيسددهم الله عز وجل بعقلهم لا بغيره وهو (الروح) الذي نزل في (ليلة القدر) وهو (العمود من النور) (۱) المنصوب للامام (عليه السلام) ينظر فيه ويرى جميع اعمال الخلايق .
وهو أول الوجود المقيد والسلسلة الثمانية الطول في العرض وهو الذي يسئلون منه كل ما يريدون فياتهم به ولا يغيب عنهم طرفة عين .
وما المراد من غيوبته عنهم عند قتلهم او اكلهم السم مع علمهم به فهو انه عند أكل السم وامر الله لهم بذلك امتثلوا الامر لله خالقهم وسلموا أنفسهم لما قدره لهم وقضاه في حقهم ولم يلتفتوا الى شيء حتى انفسهم ، وتوجهوا الى الله والى امتثال امره وانفاذ تقديره واشتغلوا بلذيذ لقائه عن انفسهم وبقائها ، وقدموا حلاوة الوصال على الالتفات الى انفسهم والمحافظة عليها بغيبوبة الملك المسدد حيث قال (عليه السلام) : «غاب عنه الملك المسدد» أو «غاب عنه الملك المحدث»
كما في خبر عبدالله بن طاووس قال :
قلت للرضا (ع ) : ان يحيى بن خالد سم اباك موسى بن جعفر ( ع ) ؟
قال : نعم سمه في ثلاثين رطبة .
قلت له : فما كان يعلم انها مسمومة ؟
قال : غاب عنه الملك المحدث .
قلت : ومن المحدث ؟
قال : ملك اعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله ( ص ) وهو مع الأئمة .
ولو لم يكن المراد ما ذكرناه وكان المراد من الغيبوبة ، هو المتعارف الظاهر للزمهم الجنون والعياذ بالله عند اكلهم السم وغيبوبته .
فظهر ان المراد من الغيبوبة هو ترك علمهم عند الملك الملك المسدد عند أكله السم ، يعني ترك تعقله وعلمه بالسم وعمل بخلاف عقله وعلمه ، فأكل السم القاتل المضر مع علمه به امتثالا لامره وشوقا الى لقائه ونفاذ تقديره وهو المراد من السهو أو النسيان الوارد في الأخبار في حق النبي او الأئمة (عليهم السلام) اذ السهو أو النسيان لـه معنيان :
احدهما ما هو المتعارف وهو الترك عن خير علم .
وثانيهما الترك عن علم كما في قوله تعالى : {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} .
وفي المجمع : « السهو في الشيء تركه عن غير علم والسهو عنه تركه مع العلم ومنه قوله تعالى : {والذين هم عن صلاتهم ساهون} . انتهى .
ولذا قال انس فيه : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم .
وكما في قوله تعالى : {نسوا الله فنسيهم} اي تركوا الله فتركهم ولا يمكن ان يقال ان المراد من نسيان الله لهم هو المعنى المتعارف .
الحاصل : فالمراد من سهو النبي والأئمة (عليهم السلام) الوارد في الأخبار هو المعنى الثاني ، يعني تركهم الشيء عن علم وعمد ، بعبارة اخرى يعرضون عن شيء ويقبلون على شيء .
ومنه ما روي ما معناه ان الكاظم (عليه السلام) : كان يعلم السم الذي وضع له في العنب ؟
فقال (عليه السلام) : نعم .
قيل : وضع بين يديه كان يعلم ؟
قال : نعم
قيل : وحين تناول كان يعلم ؟
قال : انساه ليجري عليه القضاء . انتهى .
وبالجملة : الاعراض هو الترك عن علم وعمد يعبر عنه مرة بالسهو وتارة بالنسيان واخرى بغاب عنه الملك المحدث ونحو ذلك .
وكل ذلك المراد منه ما ذكرناه لا المعنى المتعارف المنافي لعصمتهم (سلام الله عليهم) تعالوا عن ذلك علوا كبيرا .
فظهر ان المراد بغيبوبة الملك المسدد او المحدث عند أكلهم السم أو اقدامهم الى القتل هو الأعراض عن علم وتركهم للشيء عن عمد وعلم به لانه اذا أراد الشهادة او أكل السموم حضر عنده آباؤه الطاهرون :
وقالوا : «الينا الينا فانا اليك مشتاقون وما عند الله خير لك» .
فتوجه الى الله وإليهم ولم يتلفت الى شيء بل ترك الدنيا وما فيها حتى نفسه الزكية واشتغل بما هو أهم من حفظ النفس والتوجه إليها وهو اطاعة المولى الجليل وامتثال امره ومشاهدة جماله وجلاله فافهم وتبصر في حق مواليك وإلا فسلم تسلم .