العلامة الكبير فقيه أهل البيت الحكيم الكبريائي
مولانا الحاج ميرزا موسىٰ الإحقاقي الإسكوئي قدس سره
عمن اعتقد ان النار لا يخلد فيها احد ؟
السؤال الرابع : عمن اعتقد ان النار لا يخلد فيها احد ؟
الجواب :
اقول : لم يقل احد بان اهل النار لا يخلدون فيها ، ولم اطلع على من قال واعتقد به الا ما في (الاسفار) نقلا عن ابن عربي في (فتوحاته) عن بعض اهل الكشف انه قال : انهم - يعني اهل النار - يخرجون الى الجنة حتى لا يبقى احد من الناس البتة ، وتبقى ابوابها تصطفق وينبت في قعرها الجرجين ويخلق لها اهلا يملأها انتهى .
أقول هذا الاعتقاد فاسد ومخالف لاجماع المسلمين قاطبة وسائر الملل والنحل ، وخلاف صريح الآيات القرآنية والأخبار النبوية والمعصومية ، فلا يحتاج في ابطاله الى تجشم دليل وتكثير القال والقيل .
نعم قال جمع من أهل التصوف كابن عربي وعبد الكريم الجيلاني صاحب (الانسان الكامل) (۱) وابن عطاء الله والبسطامي ونظرائهم من العامة والخاصة ، مثل ملا صدرا الشيرازي في (شواهد الربوبية) وملا محسن الفيض تبعا لأستاذه في (النوادر) بان التألم والعذاب ينقطعان عن أهل النار ويتنعمون بالنار وان كانوا خالدين فيها كتنعم الجعل بالريح النتن ، ويتألمون من رائحة الجنة كتألم الجعل من الروائح الطيبة ، وصاحب المزاج الحار من رائحة المسك والعنبر .
واستدلوا على ذلك بادلة واهية اوهن من بيت العنكبوت وعمدتها ان الله عدل لا يجوز ولا يصدر عنه ما هو قبيح كالظلم والجور ومقتضى عدالته ان العاصي له اذا عصى في دار الدنيا مقدار عشرين سنة مثلا ان يعذبه في الجحيم ايضا عشرين سنة ولا يزيد في عذابه على مدة عصيانه في دار الدنيا . ولو زاد في معاقبته وعذابه بازيد من مدة عصيانه كان ظالما والظلم قبيح قطعا .
والجواب على طريق الاجمال :
ان الله سبحانه لا يظلم أحدا من الناس أبدا ، ولكن الناس انفسهم يظلمون .
واما خلود اهل النار فيها مع انهم عصوا الله مقدار اعمارهم ، خمسين او ستين او مائة سنة مثلا ، فبمقتضى نياتهم لان نياتهم الدوام على المعصية والكفر لو بقوا ببقاء الدهر ابدا الأبدين وكذلك خلود اهل الجنة فيها مع انهم اطاعوا الله مقدار اعمارهم لان نياتهم الدوام على الطاعة لو بقوا ابدا الآبدين .
ولا شك ان الثواب والعقاب على النيات ، والجوارح والاعضاء كاشفة عن حسنها وقبحها وترجمان لها ، ولذا ورد عنهم (سلام الله عليهم) ان بقية الله (عجل الله فرجه) اذا ظهر يقتل من رضى بقتل الحسين (ع) وافعال قاتليه الى يوم القيامة قصاصا مع انهم لم يقتلوا ولم يحضروا ، وليس ذلك الا لنياتهم ومساواتهم لنيات قاتليه (ع) .
وهذا هو ما ورد ما معناه ان رجلا لو قتل رجلا في المشرق ورضي رجل بذلك في المغرب كان شريكا في دمه ويأخذ به .
فتبين ان العمدة في الاعمال وروحها هي (النية) وبها يثاب العبد ويعاقب . والجوارح والاعضاء آلات واسباب لاجراء حكمها وانفاذ امرها وآثارها .
فخلود اهل الجنة واهل النار فيهما لنياتهما لا للطاعة والمعصية مقدار اعمارهم والا كان كما يقولون .
وورد عنهم (عليهم السلام) أيضا أنه انما خلد اهل الجنة في الجنة واهل النار في النار بنياتهم اي بنياتهم وعزمهم على الطاعة والمعصية استحقوا الخلود فيهما .
وما ما ورد ان نية المعصية لم تكتب معصية فذلك اذا نواها وتمكن من فعلها ولم يفعل ، وأما إذا نواها ولم يتمكن من فعلها لمانع وهو يريد فعلها فانه يؤاخذ بها ويكون يوم القيامة كمن كان فاعلا لها كما يشهد به الخبر السابق ، وفعل الحجة في قتلة الحسين ومن رضي بافعالهم - لعنهم الله ـ فظهر ان اهل النار معذبون مع خلودهم فيها بمقتضى نياتهم . والنية هي مدار الثواب والعقاب لا العمل حتى يكون عذابهم في النار بمقتضى مدة معصيتهم ثم ينعمون فيها .
ثم ان كان عذابهم مقدار مدة عصيانهم يلزم منه ان يتنعم اهل الجنة فيها مقدار طاعتهم في دار الدنيا ثم لا يلتذون مع انهم ملتذون ومتنعمون فيها ابدا قطعا .
فان قلت : ان أهل الجنة أيضا يقتضي ان يلتذوا وينعموا فيها بقدر طاعتهم كأهل النار لكن الدوام تفضل منه تعالى عليهم لا بعدله فيهم .
قلت : بأي شيء استحق اهل الجنة التفضل بدوام التنعم والتلذذ ؟
ان كان السبب هو العمل والطاعة مدة معلومة ،
قلنا : ان مدار الثواب هو (النية) لا (العمل) وانه كان ليس مدار الثواب فضلا عن التفضل بما هو فوق جزاء عمله . وان كان السبب هو النية كما هو الحق والصحيح ثبت ما هو المطلوب من عذاب اهل النار دائما ابدا بمقتضى نياتهم .
ومن جملة ادلتهم ايضا على ما نقله شيخنا الاوحد العلامة آية الله في الأنام (اعلى الله له المقام) (۱) :
«ان العاصي اذا طال مكثه في الجحيم كانت طبيعته ملائمة لطبيعة النار فكان معتادا بها فيلتذ بالعذاب كالجمرة فانها خشبة فأثرت فيها النار واحرقتها حتى كانت من نوعها بحيث لو أتاها ما ينافي النار والاحراق كالماء اطفاها وافسدها وكذلك اهل النار بعد تطاول الدهور وانقلاب طبايعهم كطبيعة اهل النار لو ادخلوا الجنة تألموا وأضرت بهم كما تضر النار اهل الجنة لو كانوا فيها» انتهى .
والجواب : ان طبيعتهم اذا لائمت طبيعة النار وكانت موافقة لها خرجوا عن كونهم هم وكانوا بعضا وجزءاً من النار ومن جنسها كالكلب اذا وقع في عين الملح وبقى فيها مدة بحيث صار ملحا لا يقال انه كلب بل يقال انه ملح وجزء من عين الملح ومن جنسه لكنه في صورة الكلب ، وكذلك اهل النار من بعد مكثهم مدة فيها لا يقال انهم هم على مدعاهم كما يظهر من تمثيلهم بالجمرة بل يقال انهم جزء وبعض النار وان كانوا في صورتهم كما ان الخشبة بعد كونها جمرة تكون جزء من النار .
والحال ان المدعى ان يبقوا على ما هم عليه مما تركبوا منه من (المادة) و (الصورة) (١) ، ولا يتغير جنسهم بغيره والله عز وجل يقول وقوله الفصل :
{كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} (٢) .
فاذا لم يتبدل جنسهم بغيره وبقوا على ما هم عليه من مادتهم وصورتهم فكيف تلائم طبايعهم طبيعة النار وكيف يلتذون بالنار ولا يتأذون بها ولا تضر بهم ؟
ومن جملة ادلتهم قوله تعالى : {ورحمتي وسعت كل شيء} (۳) ومقتضى سعة الرحمة ان لا يخلدوا في النار ولا يعذبون فيها الا مقدار مدة معصيتهم .
والجواب اولا : ان مقتضاها على ما يزعمون ان لا يصيب احدا مكروه في دار الدنيا أيضا والامر خلافه وجدانا .
وثانيا : ان الرحمة لها قسمان : (فضل) و (عدل) ، فتسع المؤمنين بالأول وهو (الرحمة المكتوبة) كما في قول عز من {قائل فسأكتبها للذين يتقون} وتسع الكفار والمنافقين بالثاني وهو (العدل) (۱) .
ومن جملة ادلتهم . ان أهل النار خلقوا منها والشيء لا يحرق نفسه ولا يؤثر فيه ، وأما تألمهم وتأثرهم بالنار اول دخولهم خرج بدلیل خاص .
والجواب : ان اهل النار وان كانوا خلقوا منها لكن ليسوا بعضها منها ، فتأكلهم النار كما ان الانسان خلق من التراب وليس بعضا منه مع ذلك يأكله التراب ويبليه ويفتت اعضائه ، والشيء لا يؤثر في نفسه ولا يحرقه اذا كان بعضا وجزءا منه .
وقد اثبتنا سابقا خلافه ، وهو ان أهل النار ليسوا ببعضها ولا جزئها بل أنهم ممتازون عنها بميزاتهم من (المادة) و (الصورة) وان كانوا خلقوا منها .
ثم الدليل الدال على تألمهم أول دخولهم النار دالا ايضا على تألمهم فيها آخرا فلا اختصاص له بالأول ، وأدلة الكتاب (۲) والسنة مصرحة بدوام تألمهم ماداموا فيها .
والحاصل : الآيات والروايات صريحة في خلود اهل النار فيها وتألمهم وعذابهم فيها دائما ابدا ولا حاجة الى كثرة القال والقيل ازيد مما ذكرنا من الدليل .