الغاية من إيجاد الخلق

الشيخ عبدالجليل الأمير حفظه الله


الغاية من إيجاد الخلق


الله سبحانه وتعالى حينما أحب أن يعرف ، خلق الخلق لكي يعرف


فالعلة الغائية من خلق الخلق هي المعرفة


قال الإمام الرضا عليه السلام : «أول عبادة الله تعالى معرفته» ، فمن لا يعرف لا يمكن له العبادة


{وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات:٥٦) ، أي ليعرفون


فمن هنا نعلم أن الخلق كلهم مكلفون بالعبادة لله وحده {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (سورة الإسراء:٤٤) . فمن لا يعرف لا يعبد .


إذن الله تعالى ما خلق الخلق إلا لعبادته ، المترتبة على معرفته


ولكن يا ترى هل المعرفة التي من أجلها خلق الله الكائنات هي معرفة ذات الله تعالى ، أم معرفة آثاره وأفعاله من السموات والأرضين الموصلة إلى معرفته سبحانه؟ 


بالطبع ، المعرفة الواجبة على الخلق هي معرفة الآثار والأفعال المطروحة على مسرح الكون ، لأن معرفة ذات الله تبارك وتعالى محال عقلا ونقلا .


قال تعالى : { وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ، وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (سورة طه:١١٠-١١١) ، لأنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، فهو تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .


عن أبي بصير، قال : قال أبو جعفر عليه السلام : «تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا»


وفي رواية أخرى عن حريز : «تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله»


عن أبي عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «يا زياد إياك والخصومات ، فإنها تورث الشك وتهبط العمل وتردي صاحبها وعسى أن يتكلم بالشيء فلا يغفر له إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى أن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه وفي رواية أخرى حتى تاهوا في الأرض» .


فالطريق الوحيد لمعرفته سبحانه هو طريق آثاره وخلقه ، فعبر طريق مصنوعاته نعلم ونستدل على وجوده وإلٰهيته .


فالله تعالى تعرف للخلق بالخلق أنفسهم ، لا بذاته تعالى


قال أمير المؤمنين علي عليه السلام : «تجلى لها بها وبها امتنع منها وإليها حاكمها» ، فالتجلي في رتبة المتجلي


وذلك مثال الشاخص الظاهر والمتجلي للمرأة ، فتجلى وتعرف الشاخص للمرأة بنفس المرأة ، لا بشيء آخر على قدر صفائها وكدورتها


فإن كانت المرأة صافية ، ظهرت صورة الشاخص صافية ، وإن كانت معوجة ظهرت الصورة معوجة ، وإن كانت كدرة ظهرت الصورة كذلك


فالتجلي والتعرف ، أعني تعرف الشاخص للمرآة ، لا يكون إلا في رتبة المرآة ، أي المتجلي فيه من الصفاء والكدورة والاعوجاج .


هذا مع العلم أن الشاخص لم يكن داخلا في المرأة ، ولا المرأة داخلة في الشاخص ، بل التجلي للمرأة بالمرأة ، فبالمرآة امتنع الشاخص أن يظهر بذاته ، لأن الصورة هي آتية ودليله وتعريفه للمرأة بنفسها ، فامتناع ظهور الشاخص بذاته لظهوره بفعله وأثره وهي الصورة


فالآيات والآثار المطروحة على مسرح الكون كلها تجليات وتعرفات الحق سبحانه بنفسها لا بذاته ، يعني أنه تعالى ليس داخلا فيها ولا هي داخلة فيه ، مثل المرآة والشاخص ، لذا صرف الحق خلقه إلى النظر في هذه الآثار والآيات ليعرفوه بها وأشار سبحانه إلى أن المعروف والمشار إليه في هذه الكائنات هي الآيات الدالة على الله تعالى .


قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } (سورة فصلت:٥٣) لاحظ قوله تعالى : (آياتنا) ولم يقل (ذاتنا) . 


فالله هو المتجلي والمعترف ، لكن عن طريق آياته وآثاره تعالى


لذا فالقرآن الكريم والسنة المطهرة قد أكدت تأكيدا على النظر في الآفاق والأنفس ، لمعرفة الحق سبحانه وتعالى ، لأنه ما تجلى للخلق إلا بالخلق أنفسهم ، وذلك لعدم إحاطته ومعرفته «كل معروف بنفسه مصنوع وكل قائم فيما سواه معلول»


فالحق تعالى تعرف للخلق بتعريفين : تعريف حالي وتعريف مقالي ، ليعرفوه بهما .


  • التعريف الحالي :-

هو تعريف الشيء بنفسه لا بشيء آخر


مثل تعريفك زيدا جهاز الكمبيوتر ، بإحضار نفس جهاز الكمبيوتر لزيد ، وقولك له يا زيد هل تعرف هذا الجهاز الذي امامك؟ 

فيقول : نعم

فتقول له : هذا الجهاز هو جهاز الكمبيوتر

فكلما أمعن ودقق زيد النظر إلى هذا الجهاز كثيرا زادت معرفته وعلمه به وبخفايا هذا الجهاز


فهذا التعريف لا يحتاج إلى ذكر مقدمات أو شيء آخر غير نفس هذا الشيء المعرف .


  • التعريف المقالي :-

وهو تعريف الشيء بمعرفة خبير عالم فاهم لهذا المعرف


فجهاز الكمبيوتر لا يستطيع أن يعرفه كل أحد من البشر ، بل تتوقف معرفة هذا الجهاز المعقد على رجل خبير دارس ، مستوحي درسه من عالم ومهندس خبير بخفايا هذا الجهاز ودقة صنعه أو ما يحتوي عليه من مميزات وخدمات ، 


فكلما كان المعرف آخذا معلوماته وتعريفاته من صانع ومبدع هذا الجهاز ، كان تعريفه أدق وأضح ، بصرف النظر من أن يكون رجلا عاميا يعرف هذا الجهاز فيكون حينئذ مظنة الخطأ والزلل في التعريف واردة


كما أنه لا يمكن لهذا المعرف الخبير أن يسمي هذا الجهاز أو يسمي بعض محركاته وآلاته ما لم يسمه صانع هذا الجهاز


بل ينبغي على هذا المعرف أن يسمي هذا الجهاز على حسب ما استوحاه من صانعه ومبدعه ، وإلا يلزم التحريف والتغيير


فلا يمكن ولا ينبغي لهذا المعرف أن يعرف القرص المضغوط بالباب ، ففي ذلك تعريف الشيء بغيره ، وهذا خلاف التعريف الجامع المانع


فتعريف الشيء بالتعريف الحالي أجلى وأتم من التعريف المقالي لعدم احتياجه إلى معرف غير نفسه ، والجمع بين التعريف الحالي والمقالي أكمل


لذا سبحانه وتعالى لما طلب من خلقه معرفته ثم عبادته تعالى تعرف لهم بكلا التعريفين ، الحالي والمقالي لكمال جمعهما ...


التعريف الحالي المتعرف به تعالى ، هو هذا الكون بما فيه من عجائب وغرائب في الآفاق والأنفس


فمتى عرف هذه الآفاق والأنفس بالنظر والتفكر والتدبر عرف الله تعالى على حسب قابليته ومقامه


كما أن النملة تدعي أن لله زبانيتين ، وذلك لاعتقاد النملة بأن الزبانيتين تعد كمالا للنملة المتصفة بهما والنقص من فاقدتهما .


فتوحيد الله وتعريفه لخلقه بعدد رؤوسهم ، فلا حد ولا حصر لتوحيده من قبل خلقه مع اتفاقهم بأنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، والذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد


فأكثر الآيات القرآنية حثت كثيرا على هذا الجانب من التعريف الحالي بالنظر والتفكر


قال تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} (سورة آل عمران:١٩٠)


{أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (سورة الغاشية:١٧-٢٠) .


قال أمير المؤمنين علي (ع) : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» .


قال تعالى : (وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ) (سورة الذاريات:٢١)  .


فالقرآن والسنة مملوء ان بالحث على التفكر والنظر في هذا التعريف الحالي {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } (سورة فصلت:٥٣)


أما التعريف المقالي المتعرف به سبحانه ، هو تعريفه عن طريق أنبيائه ورسله وأوصيائه ، وما أنزل عليهم من كتب وصحف ، فكلها نعوت وتعريفات للحق المتعرف لهم بهم


فالتعريف المقالي ، هو طبق بل عين التعريف الحالي ، لماذا؟ 

لأنهم لا ينطقون عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .


{وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} (سورة الحاقة:٤٤-٤٦)


فمن هذا التعريف المقالي أصبحت أسماء الله تعالى توقيفية لا تشريعية من البشر أنفسهم


فلا يحق لنبي من الأنبياء ، أو رسول من الرسل ، أو وصي من الأوصياء ، أن يسمي الله ما لم يسم به نفسه


قال الإمام الرضا عليه السلام لسلمان المروزي : «فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه» .


فكل أسماء الله تعالى الصادرة من التشريع من قبل الحق تعالى لا من عند الرسل أنفسهم ، بل هو وحي يوحى


فلا يجوز لبشر أن يسمي الحق تعالى شجاعاً ، قياساً على أنه القوي القادر ، لموافقة معنى الشجاع القوي القادر


فهذا ابتداع في الدين ومخالفة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .