أبو المكارم الشيخ حسين المطوع حفظه الله
القرى الظاهرة
الحمد لله الذي هدانا إلى صراطه المستقيم ، وسلك بنا نهجه القويم ، وجعلنا ممن يزن بالقسطاس المستقيم ، والصلاة والسلام على من بهم يعرف الصحيح من السقيم والمعوج من المستقيم الفضل العميم والخير الجسيم والبلاء العظيم محمد وآله أمناء الحق السميع العليم ما أسفر الصبح وما أظلم الليل البهيم، واللعنة الدائمة على أعدائهم جنود إبليس الرجيم إلى يوم يرد المؤمنون إلى النعيم ويلقى أعداءهم في الجحيم .
ولكي يكون الحق ظاهراً والطريق مهيعاً وجب أن يكون لحامل الحق والناطق بالصدق ونائب الإمام عليه السلام والحاكم عنه بين الأنام دلالات وعلامات بها يتبين الحق من الباطل والموافق من المنافق والصديق من العدو ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، وهذه الدلالات والعلامات على قسمين : (إجمالية وتفصيلية) :
- أما العلامة الإجمالية فهي المشار إليها بقول مولانا لسان الله الناطق جعفر بن محمد الصادق صلوات الله وسلامه عليه كما روي في عوالي اللآلي (۱۹۲/۳) "انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد ، والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله عز وجل" . وشرط الإمام عليه السلام لهذا العالم الحاكم الذي جعله الله سبحانه للخلق وجعل الراد عليه كالراد على الله سبحانه وتعالى شروط .
أولها : أن يروي أحاديثهم ، ولا يكفي هذا بل لا يروي عن غيرهم بل ينقطع إليهم انقطاعاً تاماً ، فيكون له استئناس بأحاديثهم وأن يميل قلبه إليهم ، حتى يحصل له بمزاولة رواياتهم وممارسة أحاديثهم عقلاً إلهياً وأعني بحصول العقل الإلهي له أن يكون له ما يمكن لنا أن نسميه بالعصمة المكتسبة إن صح التعبير نظيره نظير الحديدة المحماة بالنار التي تكتسب بسبب اتصالها بالنار صفات النار لا ذاتها ، ولا يصل السائر إلى هذا المقام إلا أن يكون منقطعاً في جميع أحواله الظاهرية والباطنية في سره وعلانيته إلى أهل بيت العصمة والرسالة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
فإذا كان كذلك صار عنده الملكة التي بها يعرف كلامهم عن كلام غيرهم ويطلع على أسرار كلماتهم ويكون فقيهاً كاملاً كما عرّفه أهل العصمة عليهم السلام كما روي في (البحار(١٨٤/٢) عن إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله عليه السلام : "حدیث تدريه خير من ألف ترويه ، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا وإن الكلمة منا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج" .
ولا يكون العبد كذلك حتى ينشغل بأحاديثهم (وأحاديثهم فقط) والنظر في رواياتهم ومعرفة مقاماتهم ومراتبهم حتى تطيب طبيعته وتحسن فطرته وتمثل إلى الإستقامة فتقبل ما وافقهم وتنكر ما خالفهم وتستأهل استئهالاً تاماً لقبول الفيوضات النازلة منهم عن الله الواصلة إليها وهذا هو الشرط الأعظم .
وثانيها : النظر في حلالهم وحرامهم .
أما الحلال : فهو ما كان متعلق بالأمر الإلهي ، أي كل ما أمر به الله تعالى سواء كان هذا الأمر إلزامياً كالواجبات ، أو غير إلزامي كالمستحبات والمباحات .
والحرام ما تعلق به النهي الإلهي سواء كان تحريمياً وهو المحرمات أو تنزيهيا كالمكروهات .
والحلال والحرام ليس بمتعلق فقط بأعمال المكلفين من عباداتهم كالصلاة والصيام وغيرها ومعاملاتهم من التجارة وغيرها ، بل هي شاملة لجميع الذرات الوجودية فما من شيء في جميع الموضوعات والعلوم إلا ولهم عليها أمر ونهي ، فيحصل في كل شيء حلال وحرام ومستحب ومباح ومكروه .
فالشخص الإلهي الذي حصلت له الفطرة الشرعية الإلهية بانقطاعه إليهم واتصاله بهم وجب عليه أن لا يتوجه إلا إلى حلالهم وحرامهم ، وكل الأشياء كائنة ما كانت إما قبلت ولايتهم ووافقت محبتهم أو أنكرت ولايتهم وخالفت محبتهم .
فالقابل الموافق هو متعلق الحلال على اختلاف الجهات والمراتب والمقامات ، والمخالف المنكر هو متعلق الحرام كذلك .
فثبت أن جميع الوجودات التكوينية كلها إما حلالهم أو حرامهم ، إذن فيجب على العالم القائم مقامهم عليهم السلام أن يقتصر فقط وفقط النظر إلى حلالهم وحرامهم ، وأن لا يلتفت إلى أي شيء لا يرجع لهم ولا ينتسب إليهم صلوات الله وسلامه عليهم ، بل ولا يلتفت إلى العلوم التي لا صلة لها بهم عليهم السلام والتي لا ترجع إلى نبي أو ولي ، بل يكون مشاركا في الخوض فيها والبحث عنها ككل كافر ملحد ردي .
ولما كان لا كل من نظر وصل ولا كل من وصل عرف شرط صلوات الله وسلامه عليه الشرط الثالث وهو قوله عليه السلام (وعرف أحكامنا) ، والأحكام جمع مضاف يفيد العموم الاستغراقي الشامل لجميع الأفراد ، فحينئذ يكون هذا العالم الإلهي عنده معرفة جميع أحكامهم عليهم السلام في جميع الأشياء ، فإن من ليس له معرفة بجميع أحكامهم لا يقدر على رد الغالين وانتحال المبطلين ، فإن أهل الباطل لهم في كل شيء طريق إلى إظهار باطلهم .
فلهذا يجب أن يكون هذا الحاكم عارفا بمحال ظهور الأبالسة والشياطين ، ولا تطرد الشياطين إلا بنور الولاية الظاهرة في وجهة النور من الشيء ، فيتوقف حفظ الدين على معرفة جميع أحكامهم عليهم السلام ، ولا يمكن لأحد معرفة جميع أحكامهم إلا إن كان تام الاتصال بهم عليهم السلام في الظاهر والباطن وفي السر والعلانية بالروح وبالبدن فمن كان كذلك كان مخلصا في محبتهم وقد قالوا عليهم أفضل الصلاة والسلام : "ما من عبد أحبنا وأخلص في معرفتنا وسئل مسألة إلا ونفثنا في روعه جواباً لتلك المسألة" .
وشرط المحبة التامة الكاملة هي مقام موافقة المحبوب في كل ما يحب حتى وإن كان ما يحبه خلاف ما يشتهي المحب ، فيجب على المحب أن يكون موافقا للمحبوب وذاكراً إياه على كل حال ومقراً بجميع فضائله وجميع مقاماته ، فلا يقول إلا عنهم ولا يشير إلا إليهم ولا يستدل إلا بهم ولا يدل إلا عليهم ولا يدعو إلا إليهم ولا يأخذ إلا عنهم ولا يعتمد إلا عليهم ولا ينقطع إلا إليهم ولا يعرف إلا بهم ولا يسلك إلا منهجهم ولا يقفو إلا آثارهم فمن كان كذلك كان مثالهم .
فمن وجدت فيه هذه العلامات في أي شخص فاعلم يقينا أنه هو الحاكم عن الإمام والهادي إليهم والدليل عليهم ، فهو الهادي إلى الطريق القويم والمرشد إلى النهج المستقيم والقرية الظاهرة للسير إلى القرى المباركة والحاكم العادل عن السلطان العادل ، فتمسك به ولا تتخلف عنه فتكون من الهالكين .
وهذا العالم هو الذي يهدي إلى السبيل ويرى الحق حقاً والباطل باطلاً ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيى من يحيى عن بيِّنه .
وأما العلامات التفصيلية فسنذكرها في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى .
هذا وصلى الله على محمد وآله الطاهرين