في مقامات التوحيد

أبو المكارم الشيخ حسين المطوع حفظه الله


في مقامات التوحيد


الحمد لله الأول قبل الإنشاء والآخر بعد فناء الأشياء العليم الذي لا ينسى من ذكره ولا ينقص من شكره ولا يخيب دعاء من دعاه ولا يقطع رجاء من رجاه ، والصلاة والسلام على خير من براه وصفاه واصطفاه واجتباه محمد وأهل بيته خير من لباه ودعاه ، وعلى شيعتهم التابعين نهج هداه .


إعلم أن للتوحيد مقامات أربع : توحيد الذات ، توحيد الصفات ، توحيد الأفعال ، وتوحيد العبادة


وبعد، فإني في بداية ما أكتب ألتمس العذر من إخواني وأخواتي المؤمنين والمؤمنات على انقطاعي عن الكتابة في هذه المجلة المباركة ، وما كان ذلك مني إلا لعلمي بقلة بضاعتي وكثرة إضاعتي ، ولكن إصرار المؤمنين الذين تجب علي طاعتهم دعاني للرجوع إلى الكتابة مع قلة الفائدة فيما أكتب ولكن لما كانت إجابة دعوتهم واجبة ، فإني  أكتب وما أرجو أن يكون فيه الفائدة والله الموفق المسدد .


فأقول واثقاً بالله ومعتمدا ومتوكلاً عليه أن الله تبارك وتعالى إنما خلق الخلق ليسعدهم وليبلغ بهم الكمال المطلق والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة ومعنى إسعادهم وبلوغهم إلى الكمال أن يصلوا إلى مقام العبودية له جل شأنه كل على قدره وطاقته .


ولما كان الأمر كذلك كان من الواجب في الحكمة أن يرشد الله عباده إلى ما يسعدهم وما يشقيهم وما يكون سبباً لكمالهم وعلة لنقصهم .


فكلف الخلق بالتكاليف الشرعية لأجل إيصالهم إلى هذا الكمال وليستلذوا ويستأنسوا بمشاهدة ذاك الجمال ، فكان أول ما كلفهم به معرفته جل شأنه ، وذلك  لأنه معرفته هي الطريق إلى عبادته كما قال مولانا سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام في خطبة له : 

"أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا عن عبادة من سواه ، فقال رجل: يا بن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله ؟ قال عليه السلام: معرفة أهل كل زمان إمام زمانهم الذي يجب عليهم طاعته" (علل الشرائع ۹/۱) ، وسيأتي لهذا الحديث في مقالات قادمة بيان وتفصيل .


فلما كان الأمر كذلك كان أهم الأمور وأشرف العلوم هو معرفة الله تعالى وتوحيده ، ولما كان أشرفها وأهمها كان من الواجب على كل مكلف أن يبتدأ به ويعرف كيف يوحد ربه .


ومسألة التوحيد بقدر ما هي في نظر البعض سهلة وبسيطة إلا أنها ليست كذلك ، ولا أريد أن أقول أنها صعبة ومستحيلة ولكن ليست بالبساطة التي يتصورها البعض ، نعم توحيد العوام الذي يجعل صاحبه في أقل مراتب الإيمان ولا يبلغ به ذروة السعادة والكمال هو ذاك البسيط .


وأما التوحيد الذي يكون سببا للكمال وبلوغ الآمال والسكنى في دار الوصال ، فهو الأمر الذي نحاول تبيينه وتوضيحه في مقالاتنا الآتية إن شاء الله تعالى .


فإذا تمهدت هذه المقدمة فأقول أني سمعت من سماحة سيدي ومولاي المرجع الراحل آية الله الإمام المصلح العبد الصالح الحاج ميرزا حسن الحائري الإحقاقي طيب الله ثراه في مرات عديدة يردد هذه العبارة (إن ما بين التوحيد والشرك شعرة) فتفكرت في ذلك حتى علمت أن هذه الشعرة الفارقة بين الحق و الباطل والنور والظلمة والتوحيد والشرك هي الانحراف عن نهج من جعلهم الله أركان توحيده ومن كانت معرفتهم معرفته ساداتنا وأئمتنا محمد وأهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .


فإن الأمر في بدايته انحراف شعرة وفي النهاية هما خطان متباينان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب أحدهما إلى الحق والآخر إلى الباطل أحدهما التوحيد والآخر هو الشرك نعوذ بالله من الشرك .


ولما تأملت فيمن تبع هذا النهج ومن انحرف عنه رأيت أن خير من اقتفى آثارهم واهتدى بهداهم وأخرج كنوز التوحيد وبين حقيقة التفريد والتجريد ورقى إلى سماء الكمال وشاهد حقيقة ذاك الجمال هو مولانا وعمادنا وشيخنا الأوحد الإحسائي أحمد بن زين الدين أعلى الله مقامه وأنار في الدارين أعلامه ومن سار بسيره ومشى على نهجه كابر عن كابر وكامل عن كامل حتى زماننا هذا حيث الراية بكف قوي أمين حفيظ عليم وهو مولانا وعمادنا ومرجعنا خادم الشريعة الغراء آية الله المعظم المولى الحاج ميرزا عبد الرسول الإحقاقي الحائري حفظه الله وأبقاه وجعلني من كل مكروه فداه .


ولا يؤخذ علي إني أعني بهذا الكلام أنهم ومن تبعهم الموحدون وغيرهم من لم يتبعهم المشركون بل أقول أن كل من اتبع منهاج آل محمد عليهم السلام هم الموحدون وكل من خالفهم هم المشركون كما أني أقول أن مراتب التوحيد والموحدين كثيرة جدا فهم ليسوا كلهم في مرتبة واحدة ومقام واحد ولكن لما فحصت وتدبرت وجدت هذا العالم العليم والبحر الخضم والحكيم الأفخم في أعلاها رتبة وأسماها منزلة .


ومن أراد أن يتبين حقيقة الحال فعليه بمراجعة ما صنفه تلامذته في هذا الباب حتى يرى عين الصواب ويميز الماء من السراب فهذا شرحه على الزيارة الجامعة الكبيرة وذاك حياة النفس وتلك أصول العقائد لتلميذه الأرشد وذاك شرح حياة الأرواح لتلميذه الكوهر الأزهر وهذا إحقاق الحق لسمي كليم الله وهذه عقيدة الشيعة لناشر أشهد أن أمير المؤمنين علياً ولي الله وهذه رسالة الأيمان للمصلح بين عباد الله وهذا كتاب الولاية وتفسير الثقلين للذاب عن فضائل آل رسول الله ، وغيرها من المصنفات العظيمة التي علمنا بها والتي لم نعلم ، فعلى المنصف مراجعتها وعليه الحكم ولا أريد الإطناب في هذا الباب فإن ما في الصدور أعظم وأكبر من أن نبرزه في السطور .


أما الآن فلنعد إلى ما كنا فيه وهو أن معرفة التوحيد هي أول الأمور وأهمها وأخطرها وأدقها وعلى العبد أن يكون في هذا الأمر حذرا وأن لا يقبل إلا قول من قال عن أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .


ثم إعلم أن للتوحيد مقامات أربع توحيد الذات ، توحيد الصفات ، توحيد الأفعال ، وتوحيد العبادة . 


فلكل واحد من هذه الأربعة تعريفه البسيط ونترك التفصيل إلى المقالات القادمة إن شاءالله تعالى .


فأما توحيد الذات فهو أن يعتقد أن الله واحدٌ أحدٌ فردٌ صمدٌ لا شريك له ولا ضد ولاند ولا شبيه ، وأن ذاته سبحانه لا يعلمها أحد في الوجود كائنا من كان هذا الموجود ، 


وتوحيد الصفات أن يعتقد العبد أن الله سبحانه هو الموصوف بصفات الكمال وأن العباد لا يعلمون حقيقة وصفه وأن لا يجوز لأحد أن يصفه إلا بما وصف به نفسه ، كما يجب أن نسلب عنه جل شأنه كل نقص ، وأن ننزهه عن صفات المخلوقين ، 


وتوحيد الأفعال أن نعتقد أن لا فاعل بالاستقلال في الوجود غيره جل شأنه وأنه لا يحتاج إلى معين يعينه كما قال تعالى في كتابه الحكيم "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ" (سورة الروم:٤٠) .


وتوحيد العبادة : أن تعتقد أن لا معبود إلا الله ولا تجوز العبادة لغيره وأنه لا يجوز أن يشرك معه في عبادته أحد أيا كان هذا الأحد كما قال عز من قال {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (سورة الكهف: ١١٠) .


وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذه المقالة وتفصيل هذه الأمور يأتي إن شاء الله في المقالات القادمة ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .