أبو المكارم الشيخ حسين المطوع حفظه الله
عالم الإبداع و الإختراع هو
أول ظهور لآل العصمة (عليهم السلام)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين آمين يا رب العالمين .
في المقالة السابقة قدّمنا مقدمة للدخول في البحث حول هذه الرواية الشريفة وكان الكلام يدور حول الإختراع والإبتداع وبيان شيء من معناهما ، وأما الآن فنحاول على قدر ما آتانا الله تعالى من الوسع والقوة أن نبين شيئاً من معاني هذه الرواية.
قال إمامنا موسى بن جعفر عليهما السلام : "إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نور اخترعه من نور عظمته وجلاله" هذا المعنى قد تكرر كثيراً في روايات المعصومين عليهم السلام حتى صار هذا الأمر لكثرة ذكره وتواتره في رواياتهم عليهم السلام من المسلمات ولنذكر هنا بعضاً من هذه الروايات الدالة على ذلك ثم نبين بعض ما آتانا الله من فهم هذه العبارة الشريفة .
في الكافي ٣٨٩/١ :
"إِنَّ اللَّهَ خَلَقَنَا مِنْ نُورٍ عَظَمَتِهِ ثُمَّ صَوَّرَ خَلْقَنَا مِنْ طِينَةٍ مَخْزُونَةٍ مَكْنُونَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَأَسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ فَكُنَّا نَحْنُ خلْقاً و بَشراً نُورَانِيِّينَ لَمْ يَجْعَلْ لأَحَدٍ فِي مِثْلِ الَّذِي خَلَقَنَا مِنْهُ نَصِيباً و خَلَقَ أَرْوَاحَ شِيعَتِنا مِنْ طِينتِنا وَ أَبْدَانَهُمْ مِنْ طَينَةٍ مَخْزُونَةٍ مَكْنُونَةٍ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّينَةِ وَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لأَحَدٍ فِي مِثْلِ الَّذِي خَلَقَهُمْ مِنْهُ نَصِيباً إِلا لِلأَنْبِيَاءِ وَلِذَلِكَ صِرْنَا نَحْنُ وَ هُمُ النَّاسَ وَصَارَ سَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لِلنَّارِ وَ إِلَى النَّارِ" .
وفيه أيضاً ٥٣٠/١ :
"إِنَّ اللَّهَ َخلَقَ مُحَمَّداً وَ عَلِيّاً وَ أَحَدَ عَشْرَ مِنْ وُلْدِهِ مِنْ نُورٍ عَظَمَتِهِ فَأَقَامَهُمْ أَشْبَاحاً فِي ضِيَاءِ نُورِهِ يَعْبُدُونَهُ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَ يُقَدِّسُونَهُ وَ هُمُ الأَئِمَّةُ مِنْ وَلْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم" .
قبل الخوض في غمار البحث في هذه المسالة لا بأس أن نشير إشارة مهمة وهو أن عالم الإبداع إن كان عالماً راقياً متعالياً إلا أنه ليس هو مقام حقيقة المعصومين عليهم السلام بل هو على حسب فهمنا أول مقام ظهورهم عليهم السلام للخلق والدليل على ذلك ما روي بما في معناه أنه لما وصل جبرئيل مع نبينا صلى الله عليه وآله إلى ذلك المقام المعين ولم يتجرأ جبرئيل على التعدي عن هذا المقام بل وقف وقال لأن تقدمت أنملة تكسرت أجنحتي ، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وآله أفي هذا الموضع تتركني؟
أجابه قائلاً : يا رسول الله إنه موطئ لم يطأه أحد من قبلك ولن يطؤه أحد من بعدك كما روى في البحار ٣٨٦/١٨ في بعد أحاديث المعراج (إن هذا موضع لم يطأه أحد قبلك ولا يطؤه أحد بعدك).
وهذا دليل كاف على أن مقامهم لم يصل إليه أحد ولم يخرج منهم إلا إليهم .
وعلى أن مقامهم لم يصل إليه أحد ولم يخرج منهم إلا إليهم .
وإليك دليل آخر ففي بصائر الدرجات عن أبي الصامت قال سمعت أبو عبدالله الصادق عليه السلام يقول : "إن من حديثنا ما لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد مؤمن ، قال: فمن يحتمله ، قال: نحن نحتمله" .
مما تقدم يتبين أن العالم الخاص بهم صلوات الله وسلامه عليهم أعني بحقائقهم هو فوق عالم الإبداع بل وفوق جميع العوالم .
وأما عالم الإبداع فعلى حسب فهمنا هو أول ظهور لآل العصمة صلوات الله وسلامه عليهم وفي هذا العالم ألبسهم الله ثوب عظمته وجلاله ولاهوتيته كما مر عليك في الأحاديث؟ وهذا الأمر هو الذي يحتاج إلى زيادة بيان فافتح لي مسامع قلبك واصغ لي بفؤادك حتى يتبين لك حقيقة الأمر .
اعلم وفقنا الله وإياك وأنار الله قلوبنا بنور معرفة موالينا صلوات الله وسلامه عليهم أنه قد ثبت بالأدلة العقلية والنقلية أن الله تبارك وتعالى لا يُعرف من جهة ذاته مطلقاً ومن هذه الأدلة أنه يجب أن يكون بين المدرِك والمدرَك مناسبة أو أمر مشترك أي مثلاً أن يكونوا من جنس واحد ، ألا ترى أننا لا نُدرِك حقائق الملائكة .
نعم نحن نؤمن بوجودهم ولكن لما لم تكن بيننا وبينهم مناسبة ظاهرية أو لكوننا لسنا من جنسهم من حيث اللطافة ، فهم خلق في غاية اللطافة ونحن خلق في منتهى الكثافة لم نستطع ولم نقدر على إدراكهم مع العلم أنهم خلق مثلنا بل والأدلة ناصة على أن الملائكة قد خلقوا من فاضل أنوار المؤمنين وأن المؤمنين أعلى رتبة منهم ، منها قوله عليه السلام : "فسبحنا فسبّحت شيعتنا فسبّحت الملائكة" فتسبيح الموالين بتعليمهم عليهم السلام وتسبيح الملائكة بتعليم المؤمنين .
وأيضاً روى الصدوق (ره) في العلل عن عبد السلام بن صالح الهروي عن علي بن موسى الرضا عليهما السلام :
"وأن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا يا علي الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم . ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا" الحديث ، وأيضاً روي في وسائل الشيعة عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبدالله جعفر الصادق عليه السلام :
".. فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم" .
ولا ريب أن المؤمن قد غلب عقله شهوته ، وعلى الرغم من ذلك فإن المؤمن بعدما عرض عليه من الكثافات لا يستطيع إدراك حقيقة الملائكة الذين هم أنزل مرتبة منه ، فكيف بخالق الملائكة وموجدهم فإنه من باب أولى لا يدرِك وليس هذا من باب القياس إنما هو من باب المثال ، مع العلم بأن المؤمن متى ما رفع الحجب وأزالها فإن رؤية الملائكة وإدراك حقيقتهم أمر غير مستحيل ولكن بالنسبة إلى الله فهو من لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
مما تقدم تبين لك أيها الموالي أن الله سبحانه لا يُدرَك أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة مطلقاً وقد فرض الله تعالى على عباده أن يعرفوه فقال عز من قائل: {وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} .
إلا أن هذه المعرفة ليست هي معرفة ذاته لقوله عليه السلام: "الطلب مردود والطريق مسدود" ، فصار الواجب على الخلق أن يعرفوه بآثاره وآياته {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} ولا شك ولا ريب أن أعظم آياته وأشرفها هم محمد وآل محمد عليهم السلام .
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن الآية دليل ذي الآية وأن الاسم دال على المسمى كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام :
"الاسم ما دل (أنبأ) عن المسمى" وأن هذه الآية وهذا الاسم كلما كان أقرب من ذي الآية أو المسمى كان أكثر حملاً لأوصاف ذي الآية والمسمى .
ولأضرب لك مثالاً تعرف به معنى ما أقول : شعاع الشمس هوية للشمس واسم لها فإنك إذا رأيت شعاع الشمس تقول رأيت الشمس لكون هذا الشعاع المرئي حاملاً لوصف الشمس من الضوء والحرارة ... الخ ، وكلما كان الشعاع أقرب إلى قرص الشمس كلما كان هذا الوصف فيه أجلى واكثر وضوحاً وكان صدق هذا الاسم عليه .
إذا عرفت هذا المثال وعرفت أنه لا يوصف في الوجود كله من هو أقرب إلى الله تبارك وتعالى من آل بيت العصمة والرسالة محمد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وبالتالي صاروا هم أسماء الله تبارك وتعالى بل أعلى وأعظم أسمائه بل لا يصدق على شيء أنه اسم الله تبارك وتعالى بالحقيقة غيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
فقد ورد عن إمامنا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله : "نحن والله الأسماء التي أمركم الله أن تدعوه بها" .
واعلم أن المثال الذي ضربته لك إنما هو لتقريب المعنى وإلا فهم سلام الله عليهم المثل الأعلى وعقولنا القاصرة لا تُدرِك حقيقة مقامهم وعلو رتبتهم وإنما عبّرنا بما عبّرنا إلى قدر عقولنا وأفهامنا .
مما تقدّم تبين أن جميع أسماء الله وصفاته عبارة عن ظهوراتهم وتجلياتهم ، ثم إن الإسم لم يوضع حتى يتعرّف المسمى به لغيره لأنه بنفسه لا يحتاج إلى أن يسمي نفسه فإنه عارف وعالم بها بدون تسمية ، ولذا قلنا أن جميع الأسماء والصفات عبارة عن ظهوراتهم .
ثم اعلم أن الآيات والكتب والأسماء على ثلاثة أقسام نتكلم عنها في المقالة القادمة إن شاء الله تعالى .