المخزن الثاني
الجوهر الثاني
(ظهوره وبطونه من صفاته الفعلية)
إذا عرفت أن الفاعل من الصفات الفعلية ، عرفت أن الظهور والبطون كلاهما من الصفات الفعلية ، لأن الظاهرية والباطنية متقومتان بالظهور والبطون الذين هما من صفات الإمكان ، فهو سبحانه لا يتصف بالظهور ولا بالبطون في رتبة ذاته ، لكنه ظهر للخلق بالخلق ، وبطن بنفس ذلك الظهور ، فظهوره كان عين بطونه ، فهو لم يزل ظاهرا ببطونه وباطنـا بظهوره ، لأن الشيء إنما يخفى لشدة ظهوره ، فكلما كان أشد ظهورا كان أشد خفاءاً ، ولنعم ما قيل :
خفي لإفراط الظهور تعرضت
لإدراكه أبصار قوم أخافش
فحظ العيون الزرق من نور وجهه
لشدته حظ العيون العـوامش
قال بعض أهل المعرفة " لا تتعجب من اختفاء شيء بسبب ظهوره ، فإن الأشياء إنما تستبان بأضدادها وما لا ضد له عسر إدراكه ، فلو اختلفت الأشياء ، فدل بعضها على الله دون بعض أدركت التفرقة ، ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكل الأمر ، ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض ، فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض ، يحدث في الأرض ويزول عند غيبة الشمس ، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها ، لكنا نظن أن لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها وهي السواد والبياض وغيرهما .
فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد ، وفي الأبيض إلا البياض ، فأما الضوء فلا ندركه وحده ، لكن لما غابت الشمس وأظلمت المواضع أدركت التفرقة بين الحالتين.
فعلمنا أن الأجسام قد استضاءت بضوء واتصفت به وفارقتها عند الغروب ، فعرفنا وجود النور بعدمه ، وما كنا نطلع عليه ، لولا عدمه إلا بعسر شديد ، وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة ، ومختلفة في الظلام والنور ، فهذا مع أن النور أظهر المحسوسات ، إذ به يدرك ساير المحسوسات ، فما هو ظاهر في نفسه ومظهر لغيره .
انظر كيف تصور استبهام أمره بسبب ظهوره ، لولا طريان ضده.
فإذا الحق سبحانه هو أظهر الأمور ، وبه ظهرت الأشياء كلها ، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدت السماوات والأرض ، وبطل الملك والملكوت ، ولأدركت التفرقة بين الحالتين ، ولو كان بعض الأشياء موجودا به وبعضها موجدا بغيره لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة ، ولكن دلالته عامة في الأشياء ، على نسق واحد ووجوده دائم في الأحوال ، يستحيل خلافه . فلا جرم أورث شدة الظهور خفاء " .
فالشيء إنما يبطن لشدة الظهور وظهوره للخلق الذي هو عين بطونه إنما هو في رتبة الخلق لا في رتبة ذاته ، قال أمير المؤمنين (ع): (تجلى لها بها وبها امتنع منها واليها حاكمها) ، فبذلك الظهور خفي عن الأبصار ، فلا تدركه الأبصار ، فالخلق هو ظهوره لهم بهم ، وهم حجبه التي احتجب بها عنهم فتفطن.
وكذلك قربه سبحانه من الخلق وبعده عنهم ، فإنه إنما يتحقق بالخلق ، لا بغيرهم عند عدم ملاحظة نفسهم والتفاتهم إلى نفسهم فافهم.
المصدر