الجوهر الثامن
(في علمه تعالى)
العلم بالشيء عبارة عن ظهوره للعالم ، وذلك الظهور هو نفس المعلوم ، فيتحد العلم والمعلوم ، وإلاّ لدار وتسلسل.
فإن كان العالم علة لوجود الشيء ، فالمعلوم هو وجود الشيء ، وإلا فالمعلوم ظهوره لا نفس وجوده ، فعلم العلة بالمعلول هو نفس المعلول لا نفس العلة ، ضرورة أن العلة واحدة في ذاتها والمعلولات متكثرة بالبداهة.
فلو كان العلم بها نفس العلة لزم تكثر العلة (وهف) ' لأن العلم إن لم يكن نفس المعلوم فلا أقل يجب القول بالمطابقة بينهما ، وإلا لم يكن علما ، كما أن علمك بالطويل غير علمك بالقصير ، وعلمك بالسواد غير علمك بالبياض ، فلو علمت الطويل بالقصير والسواد بالبياض لم تكن عالما بالطويل وبالسواد ، وعلمك بزيد غير علمك بعمرو ، فلو عرفت زيدا بعمرو . لم تكن عالما بزيد ، فظهر أن العلم يجب أن يكون مطابقا للمعلوم ، والكثرة مخالفة للوحدة ، فلا يكون العلم بالوحدة نفس العلم بالكثرة .
وكذلك يجب وقوع العلم على المعلوم واقترانهما ، وكل ذلك يشهد على أن علم العلة بالمعلولات ليس نفس العلة ، هذا على القول بتكثر المعلولات.
وأما على القول بعدم التعدد في المعلول فنقول : إن حقيقة العلة مغايرة لحقيقة المعلول ، وإلا للزم أن تكون العلة نفس المعلول وبالعكس (وهف) .
والعلم بالشيء لا يكون علما بالمغاير له.
فإذا دريت ذلك فاعلم أن الذي ذكرناه إنما يجري في علم المخلوقين ، وأما علم الواجب سبحانه فلا نعلمه ، لأن علمه عين ذاته ، ولا كيف لذاته فلا كيف لعلمه فلا نعرفه ،
ولأن ذاته لا تحاط فكذلك علمه لا يحاط ، فهو يعلم الأشياء بذاته في رتبة أماكنها وأزمانها ، بمعنى أن الأشياء ليست مندرجة في ذات الواجب حتى يعلمها في ذاته ، بل إنما الأشياء كائنة في حدود أزمنتها وأمكنتها ، وهو يعلمها بذاته في تلك الحدود ، فالأشياء في رتبة الحدوث وهو في رتبة الوجوب .
فعلمه سبحانه سبق الأشياء سبقا حقيا ، كما أن فعله سبق الأشياء سبقا حقيقيا ، وإلا يلزم أن يكون جاهلا قبل إيجاد الخلق ، فهو عالم إذ لا معلوم.
وأما سائر صفاته سبحانه فكذلك أيضاً ، كالسمع والبصر والقدره إلى غير ذلك من الصفات التي عين الذات فتفطن.
المصدر